يكافح خليل البلعاوي من أجل الحصول على جالونين من الماء الصالح للشرب بعد الانتظار في طابور طويل أمام نقطة لتعبئة المياه في حي الشيخ رضوان شمال مدينة غزة.
يقوم الشاب البالغ من العمر 18 عاما بهذا الطقس المرهق يومياً والذي يستغرق من ساعتين إلى ثلاث ساعات ما بين انتظار دوره ونقل المياه إلى أحد مراكز الإيواء.
وما إن يصل الماء يعيد تفريغه في صهريج صغير لتقوم أمه بغليه من أجل تعقيمه، بعدما عانت من إصابتها طفليها (7، 9 أعوام) من التهابات معوية متكررة بفعل تلوث المياه.
وتقول الأم التي فقدت زوجها في الحرب، إن الحصول على الماء بات مشقة كبيرة ليس لعدم توفره ووصوله إلى نقطة نزوحها في إحدى المدارس، وإنما في المخاطر التي يحملها بسبب دمار البنية التحتية للمياه وتلوثها بمياه الصرف الصحي والمخلفات.
وتضيف "أم خليل" أن عملية تعقيم المياه بالغلي ليست سهلة إذ يتعين عليها إبقاء النار موقدة لساعات، وهذا يتطلب المزيد من الحطب مع فقدان الغاز منذ بداية حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال على غزة منذ أكثر من عام.
وتجد الأم وأبناءها الكبار مضطرين لهذا العمل، وإلا عليهم مواجهة عواقب تلوث المياه مع فقدان الأدوية وانهيار المنظومة الصحية، مشيرة إلى أن المياه تصل أحياناً فيها شوائب فتعمل على تنقيتها باستخدام شال خصصت لهذا الغرض.
ومع استمرار حصار جيش الاحتلال الصهيوني لشمال قطاع غزة باتت مشكلة مياه الشرب أكثر خطورة في المنطقة. وفي مدينة غزة، تكافح الكثير من العائلات من أجل الحصول على دلو من المياه كل يوم، ومياه الشرب الآمنة والنقية تعد أكبر آمالهم التي يصعب تحقيقها.
كميات محدودة
ويقول المتحدث باسم بلدية غزة، عاصم النبيه، إن المياه تصل إلى 40% فقط من إجمالي مساحة المدينة، وأن النازحين يعانون من أجل الحصول على المياه.
وأوضح النبيه في تصريحات صحفية، اليوم الإثنين، أن كميات المياه التي تصل للمواطنين محدودة جدًا، ولا تكفي الاحتياجات اليومية للطهي والنظافة الشخصية والشرب.
ويشير إلى أن ما يزيد عن 75% من آبار المياه في مدينة غزة تعرضت لأضرار كلية أو جزئية، وأنّ هناك أضرار طالت ما يزيد عن 100 متر طولي من شبكات المياه مما يجعل عملية إيصال المياه لكافة المناطق مستحيلاً.
ويشدّد النبيه على أنّ عدم توفر المياه بكميات كافية يقود إلى انتشار الأوبئة والأمراض خاصة الأمراض الجلدية.
وفي تقرير سابق، قالت بلدية غزة، إن الاحتلال الصهيوني دمر نحو 126 آلية لخدمة المياه والصرف الصحي، أي ما يعادل 80% من آليات البلدية لاسيما المتعلقة بجمع النفايات ومعالجة الصرف الصحي وخدمات المياه.
وناشدت بلدية غزة المنظمات الدولية والمؤسسات الأممية بضرورة المساهمة العاجلة في حل أزمة المياه في المدينة، من خلال زيادة كميات الوقود لزيادة ساعات تشغيل الآبار بالإضافة إلى إدخال الآليات والمعدات الثقيلة اللازمة لصيانة خطوط وشبكات المياه.
نقص الوقود وارتفاع سعره
ويشتكي محمود الغول من مدينة غزة صعوبة كبيرة جداً في تأمين الوقود اللازم لتشغيل مولد كهربائي يستخدمه الأهالي لرفع المياه من أحد الآبار التي حفرت في منزل لم يكتمل بناؤه قبل الحرب.
ويقول محمود، يوجد في الحي الذي أسكنه نحو 20 عائلة، ونتشارك فيما بيننا لتأمين المال اللازم لشراء الوقود من السوق السوداء، مشيراً إلى أن تكلفة شراء الوقود عالية جداً وتتجاوز سعره الطبيعي بعشرة أضعاف. لكن محمود يرى أن تلك التكلفة أفضل من الحصول على مياه ملوثة أو تلوثها في أثناء النقل.
ويوضح أن الحرب خلفت آثارا كارثية على البنية التحتية للمياه، وشبكات المياه ومصادر الإمدادات بشكل عام.
وتمثل المياه النظيفة دوما مورداً محدوداً في غزة، حيث تعتمد المنطقة بصورة كبيرة على شبكة من الآبار ومحطات التحلية لتزويدها بالمياه.
وفي مارس الماضي، قال بيان مشترك صدر عن الجهاز المركزي للإحصاء، وسلطة المياه، إن إجمالي المياه المتوفرة آنذاك في قطاع غزة يقدر بحوالي 10-20% من مجمل المياه المتاحة قبل العدوان، حيث تخضع تلك الكمية لتوفر الوقود.
وأضاف أن حرب الإبادة خلفت آثارا "كارثية على البنية التحتية للمياه، وشبكات المياه ومصادر الإمدادات بشكل عام، "إذ تم تدمير 40% منها، وتعطلت المضخات الرئيسية بسبب القصف أو بسبب نفاد الوقود"، وفق البيان.
وتراجعت حصة الفرد الفلسطيني في قطاع غزة من المياه بنسبة 96.5% خلال الحرب، حيث بالكاد يستطيع المواطن في قطاع غزة الوصول إلى ما بين 3-15 لترا من المياه يوميا، بحسب البيان.
عواقب صحية كارثية
وتقول وكالات الإغاثة إن نقص المياه النظيفة وتدفقات مياه الصرف الصحي غير المعالجة يشكلان تهديداً خطيراً للصحة. ويأتي هذا التدمير على الرغم من واجب الاحتلال الصهيوني في حماية البنية التحتية الحيوية بموجب قواعد الحرب، ما لم يكن هناك دليل على استخدام المواقع لأسباب عسكرية.
وتقول د. ناتالي روبرتس، المديرة التنفيذية لمنظمة أطباء بلا حدود في بريطانيا، إن تدمير مرافق المياه والصرف الصحي أدى إلى "عواقب صحية كارثية على السكان"، مشيرة إلى ارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض الناجمة عن الإسهال بشكل كارثي.
وفي الحالات الشديدة جدًا، يمكن لهذا المرض أن يقتل الأطفال الصغار والضعفاء. ووفقا لأطباء بلا حدود، فإن معدلات الإصابة بالتهاب الكبد من النوع الأول (A)، الموجود في المياه الملوثة، والذي يشكل خطورة خاصة على النساء الحوامل – مرتفعة أيضا.
ولفتت إلى الأرقام التي سجلت في جنوب قطاع غزة للإصابة بالأمراض الناجمة عن تلوث المياه، حيث نزح نحو مليوني إنسان قسرياً، مبينة أن خطر ظهور الكوليرا في غزة لا يزال قائماً.
وخلص مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة "أوتشا" إلى أن جميع مصادر المياه في غزة لا تنتج، منذ الربع الأول من عام 2024، سوى 5.7% فقط من المياه، مقارنة بمستويات الإنتاج قبل الحرب، ولا تزال مياه الشرب الآمنة ومياه الاستخدام المنزلي، ومن ضمن ذلك النظافة الشخصية، محدودة للغاية.
المياه كسلاح في الحرب
ويقول مركز دراسات النزاع والعمل الإنساني، إن جيش الاحتلال استخدم للمياه كسلاحَ في الحرب على غزة، وأدى ذلك إلى تحويل ما كان أزمة صحية عامة دائمة إلى كارثة إنسانية.
ويقول الباحث خوان كول في ورقة بحثية بعنوان "توظيف أزمة المياه سلاحاً: تدمير إمدادات المياه في غزة"، إن استهداف مرافق معالجة مياه الصرف الصحي، التي لم يعد لها أثر على الإطلاق في العديد من مدن غزة، كان مقصودًا بغية التسبب في أزمات صحية لأهالي القطاع.
ويضيف أن شدة وحجم الضرر والدمار الذي ألحقه جيش الاحتلال بالبنية التحتية للمياه، والذي يمكن رصده من خلال الأقمار الصناعية، إلى أن هذا كان تكتيكًا متعمدًا للحرب، ويمثل جزءًا من تدمير البنية التحتية المدنية بشكل عام، من خلال استخدام قنابل تزن 2000 رطل على المجمعات السكنية المكتظة.
وتنص المادة 51 من الفصل 20 من قواعد برلين بشأن الموارد المائية، التي اعتمدت في مؤتمر "رابطة القانون الدولي" في أغسطس 2004، على أنه "لا يجوز للمقاتلين، تحت أي ظرف من الظروف، مهاجمة أو تدمير أو إزالة أو جعل المياه والمنشآت المائية الضرورية لصحة ونجاة السكان المدنيين غير صالحة للاستخدام إذا كان من المتوقع أن تترك هذه الأفعال السكان المدنيين بمياه غير كافية تسبب وفاتهم نتيجة نقص المياه، أو تجبرهم على النزوح".