د. يحيى عثمان

تناولنا سابقاً مشكلة إحدى الأخوات التي تساءلت: لماذا تحولت بيوتنا إلى جزر منعزلة؟ كل ولد في غرفته، لا يفارقه الهاتف، لا يتواصل مع والديه إلا إذا كان له طلب ومن خلال هاتفه، ليس هناك أي نشاط يجمع العائلة، حتى تناول الطعام في العطلة كل في غرفته.

لم تدرك الأم هذه الكارثة إلا بعد أن اضطرها المرض للمكوث بالمنزل، حيث فوجئت أن الخادمة هي التي تسأل عنها وترعاها، وأن الأولاد يمرون عليها عند عودتهم من المدرسة، وقد لا يطالعون وجهها لانشغالهم بهواتفهم؛ مما أثر على نفسيتها وفاقت لترى حقيقة ما يمكن أن تسميه مجازاً «بيتنا» التي تمنت أن يكون «بيتنا كالفندق»! وعللت ذلك بأن في الفندق موظف استقبال يلقي النزلاء عليه السلام وعادة ما يتحدثون معه عن طلباتهم، كما هناك صالة لتناول الطعام يلتقي فيها النزلاء.

وبتحليل المشكلة، تبين أن الوالدين هما المسؤولان عن ذلك، وأن الأبناء مجنيُّ عليهم، للأسباب التالية:

– تقصير الزوج في القيام بمسؤوليته عن أسرته (القوامة)، وإلزام زوجته بالتفرغ لتربية أولادهما، خاصة وقد أثر عملها سلباً على الأولاد، وقد رزق الله الزوج ما يكفل حياة مرفهة للأولاد وليس فقط المتطلبات الأساسية للحياة.

– تفضيل الأم لنجاحها وتفوقها المهني عن القيام بمسؤولياتها كأم وهو الأهم على الإطلاق، وهو فرض عين عليها وزوجها.

– الخدم للمساعدة في القيام بأعمال المنزل، ويجب ألا يكون لهم أي دور في تربية الأولاد.

– سوء النموذج السلوكي للوالدين؛ أب مشغول بإدارة أعماله، وأم مشغولة بترقيها المهني، ومتابعة كل منهما لاهتماماته تليفونياً في الوقت القليل الذي يقضيانه بالمنزل.

– عدم وجود أي نشاط أسري يجمع الوالدين وأولادهما، حتى إنهم لا يجتمعون على وجبة في اليوم.

مما أدى إلى التصورات النفسية التالية لدى الأولاد:

– شعور الأولاد بتدني قيمتهم لدى والديهم.

– تلاشي قيمة الوالدين في حياة الأولاد، وقصور دورهما على تلبية طلباتهم المادية.

– البحث عن ملء الفراغ من خلال ما يوفره الهاتف من طيب أو خبيث.

– ضعف قدرة الأولاد على التواصل العائلي ناهيك عن التواصل الاجتماعي.

– انحسار مفهوم البيت في غرفاتهم الخاصة حتى وصل الأمر أن يطلق الولد على غرفته «داري».

– قصور عالم الأولاد على العالم الافتراضي؛ يستقي منه قيمه وعلاقاته ومعارفه.

لذا، فالأولاد مجنيُّ عليهم، والوالدان هما المسؤولان مسؤولية كاملة عن هذا البيت الخرب.

ونتناول في هذه الحلقة الإجابة عن التساؤل المهم: كيف يمكن لنا إعادة الحياة لهذا البيت؟

القناعة الراسخة بقيمة وأهمية وفرضية وأولوية التربية

لقد أشرنا في ومضات سريعة أن تربية الأولاد أمانة سنسأل عنها من الله سبحانه وتعالى، وهي فرض عين على الوالدين، لذا ومن القاعدة الفقهية «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»، فيجب على الوالدين التزود بالمعرفة الشرعية حتى يتمكنان من القيام بأمانة التربية.

برنامج معرفي تربوي

إن من أخطر التحديات التي تواجه الوالدان هي تربية الأولاد في بيئة تموج بالكثير من المخاطر الأخلاقية والأفكار العلمانية وسيطرة الأسباب المادية من خلال ما يوفره الهاتف من التواصل مع كل الثقافات؛ لذا فلم تعد التربية اجتهادات ورؤى شخصية، بل أصبحت منهجيات وبرامج مستقاة من العديد من العلوم لتزويد الوالدين بالمعين المعرفي، بالإضافة إلى التدريب على العديد من المهارات التربوية وتنمية قدراتهما التربوية؛ لذا يجب على الوالدين دراسة وأؤكد دراسة وليس فقط مجرد إطلاع على كل ما يعينهما على أداء أمانة التربية وإعادة صياغتها بما يتناسب وطبيعة وسمات أولادهما، بل والإبداع بما يمكنهما من أداء هذه الأمانة العظيمة.

القيام بمسؤولية التربية

كثيراً ما أكرر: «استثمر في أولادك قبل أن تستثمر لأولادك»، نعم لقد حثنا الرسول صلى الله عليه وسلم على أن نُورث لأولادنا ما نستطيع: «.. أنْ تَدَعَ ورَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ..» (صحيح البخاري، 5688)، عادة ما يحرص الوالدان على تكوين استثمارات لدعم مستقبل لأولادهما، ويبذلان جل وكل وقتهما في ذلك، ويتناسيا أولادهما! إن فقه الأولويات يقتضي إعطاء كل وجل الجهود لتربية الأولاد، ولا حرج لتكوين مدخرات واستثمارها ما لم يؤثر ذلك سلباً على القيام بأمانة التربية؛ لذا فأرى استقالة الأم وتفرغها لتربية الأولاد وإصلاح ما أفسدته هي وزوجها، أيضاً الأب عليه وضع حد لمتابعة أعماله 6 – 8 ساعات يومياً كحد أقصى، حتى يتمكن من التعاون مع الأم في حسن أداء أمانة تربية أولادهما.

حفلة تدشين المرحلة الجديدة

يجب أن يشعر الأولاد أن هناك تغييراً جذرياً ليس فقط في علاقاتهم بوالديهم، ولكن في كل البيت؛ لذا يجب التجهيز لحفلة يراعى فيها كل ما يحبه الأولاد، وأن هناك هدايا ومفاجآت، يتبادل الوالدان الحديث الذي يجب أن يتضمن ما يلي:

– مدى حب الوالدين لهم، وأنهم أثمن قيمة يحرصان عليها، والإشادة بهم بصفة عامة مع تخصيص كل منهم بقيمة تميزه عن غيره من إخوانه.

– وصف عام لحالة البيت والانعزالية التي يعيشها كل أفراد العائلة، وأنهما المسؤولان عن ذلك، وتبرير ذلك ببناء مستقبل لهم.

– ومن حيث إن الأولاد أعظم قيمة يجب الحرص عليها، فقد قررت الأم التفرغ للأولاد، وكذلك الأب تقنين ساعات عمله حتى يتمتعان بالأولاد.

إعطاء نموذج عملي سلوكي لأي قيمة يراد التزام الأولاد بها قبل توجيهم المباشر.

مثال:

– التزام الوالدين بعدم استخدام الهاتف في حضور الأولاد إلا للضرورة وفي أقل وقت ممكن.

– حرص الوالدين على قراءة وردهما القرآني معاً في وقت تواجد الأولاد بالمنزل.

يوم عائلي كل أسبوع

تقضي العائلة يوماً كاملاً معاً بالمنزل حيث يشترك الجميع في إعداد الطعام والحديث معاً والاطمئنان على بعضهم بعضاً، ومتابعة إحدى الفقرات الفنية والثقافية والدينية والرياضية.. على حسب تفضيلات الأولاد.

أو تقضي العائلة يوماً كاملاً معاً في إحدى المنتزهات.

الحرص على إيجاد مساحات مشتركة

– الاشتراك العائلي بأحد النوادي الرياضة، والحرص على مشاركة الأولاد في هواياتهم، أو مشاهداتهم أثناء التدريب أو المباريات.

– مشاركتهم في الألعاب المنزلية، وعمل مسابقات بين أفراد العائلة؛ مثل الشطرنج أو التنافس في اختبارات الذكاء أو المعلومات العامة..

– ليلة ثقافية كل شهر يقدم فيها كل أفراد العائلة فقرة؛ مثل ملخص كتاب أو فيلم وثائقي أو اكتشاف علمي أو مخاطر الإنترنت، وما الضوابط الشرعية لتجنبها؟ كيف تستفيد بوقتك؟ التاريخ الإسلامي، التحديات التي تواجه الفرد والأسرة والأمة المسلمة في عصر العولمة.

ليلة دينية كل شهر، صيام يوم وقيام بما تيسر، ويتبادل الأب والأولاد الإمامة، وتذكرة وموعظة وحلقة حول تدبر آية، وإن لم يستطع أحد فعلى الأقل الاستماع إلى أحد العلماء، يوجد بـ»يوتيوب» ملايين الساعات لكبار العلماء في كل ما يحتاجه المسلم.

زيارة خاصة

إن التنمية الوجدانية من أهم أدوات التربية؛ لذا فإن التفاعل الوجداني مع الأولاد من خلال التعبير عن حبنا لهم: كلمات الحب والتقدير، الاهتمام، الهدية، تفهم قدراتهم ومشاعرهم، قبول العذر بل والبحث عن أعذار لهم، الدعم النفسي، ثقتنا بهم وثقتهم بنا.

يجب أن يحرص الوالدان بالتناوب على الخروج في نزهة مع كل ولد على انفراد، أو زيارة خاصة في غرفته أسبوعياً، وبذل كل وجل الجهد لعمل صداقة قوية معه، وبناء جسور الثقة بينهما، وأن يعبرا عن حبهما له وتقديره والإشادة بمناقب حقيقية به، بحيث يمكن للولد أن يعبر عما يجول بخاطره دون خوف من لوم أو عقاب، لعل هذه الجلسة من أهم الوسائل التربوية التي تؤثر تأثيراً طيباً في المسيرة التربوية للولد.

إن تعبير الوالدين عن مدى حبهما لولدهما وشمله بالعطف والحنان على انفراد؛ يقوي علاقته بوالديه، ويزيد بقيمة الولاء العائلي، ويرفع من قيمة الاعتزاز بالانتماء، وأنه من نسل هذين الوالدين، كذلك فإن دعم ثقة الولد بنفسه وثقته بوالديه يساعد على فتح قنوات التلقي والتأثر بقيم والديه، ولا يجد حرجاً في التعبير عما يجول بخاطره؛ فيسهل على الوالدين إرشاده لما فيه خيره.

المصدر: المجتمع