{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111]
هكذا أتى ختام سورة يوسف التي وصفها الله عز وجل بأنها أحسن القصص؛ ليوضح لنا رب العالمين الغاية من القصص القرآني. ولذا وجب علينا أن ندقق في تفاصيل هذا القصص لنستخلص منه الدروس والعبر التي تعيننا على فهم واقعنا وتحسس طريقنا والإعداد لمستقبلنا وفق المنهج الرباني.
من دروس السورة الكبرى كان التمكين. والتمكين في السورة كان تمكينا ليوسف ـ عليه السلام ـ بأن بوأه الله الحكم من بعد ذل الاسترقاق، وتمكينا لدين الله بأن دخل الناس في دين الله على يديه بعد أن مُكن له في الحكم. فالوقوف على دروس هذه السورة العظيمة هام للأفراد والجماعات والدول.
والتمكين في اللغة أي الإعانة فيقال مُكّن من الشيء أي أُعين عليه وجُعل له عليه سلطاناً. وفي سورة يوسف وردت الإشارة إلى تمكين الله عز وجل لنبيه يوسف ـ عليه السلام ـ بقوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} في موضعين.
الموضع الأول أخبرنا الله عزوجل فيه بتمكين نبيه في سياق واحد من اللحظات التي لا يستقيم معها في أفهامنا وإدراكنا البشرى القاصر مفهوم التمكين مطلقا.
{ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)}
أما الموضع الثاني الذي أشار للتمكين في السورة فأتى في الآية (56) عند الحديث عن اللحظة التي أصبح فيها نبي الله سيدا ومتوجا ومتحكما في خزائن الأرض كلها، فقال رب العالمين:
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)}
وبين الموضعين هناك من الدروس الكثير الواجب الوقوف عليها تدبرا وفهما:
1- التمكين لدين الله طريق محفوف بالمكاره وليس مفروشا بالورود
في الآية (21) ذُكر التمكين لنبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ في سياق تحوله من حال الحرية الكاملة إلى حال الحرية المسلوبة (الاستعباد). فرب العالمين يلفت أنظارنا أن التمكين ليوسف في الأرض لم يأتِ عبر خلافته لأبيه يعقوب في النبوة وتبوء مكانته، وهو عزيز وسط أهله وقومه. وإنما كان طريق التمكين له محفوفا بالغدر والخيانة من إخوته وهم أقرب الناس إليه. ومفروشاً بالخوف وغياب الأمن بعدما انتزع من وسط أهله طفلا، وألُقى به في البئر ليُباع بعدها عبدا لا يملك لنفسه ولا من أمره شيئاً.
وهذا تذكير لمن لا يرون في هذه اللحظة شديدة القساوة أي ملمح من ملامح التمكين، أن محدودية علمنا وقصوره عن إدراك تصريف رب العالمين لأقداره تجعلنا لا نرى في استرقاق الغلام سببا لتمكينه في الأرض.
والأذى الذي طال نبي الله يوسف لم ينتهِ عند حقد إخوته عليه ومحاولتهم التخلص منه وما تبع ذلك من استلاب حريته، وإنما ظلت الاختبارات والمحن تلاحقه في بيت العزيز. فبعدما كبر وصار شابا يافعا أغوى جماله امرأة العزيز ففتنت به، ومعها نسوة من زوجات كبار رجال الدولة. ولأنه استعصم ورفض الاستجابة لمطالبهن والتجاوب معهن فيما حرّمه الله سُجن ظلماَ بتآمر من زوجة العزيز مع رجال القصر حتى كاد أن يُنسى وهو قابع في سجنه.
{قَالَتْ فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ۖ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ۖ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33)}.
وقد جاء في كتاب " الفوائد " للإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ ما نصه: «سأل رجل الشافعي فقال: يا أبا عبد الله، أيما أفضل للرجل أن يُمكن أو يُبتلى؟ فقال الشافعي: لا يمكن حتى يُبتلى«.
2- في التمكين لدين الله الغاية لا تبرر الوسيلة
ففي قول نبي الله يوسف " رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ" منهج واضح للدعاة وتأكيد وتذكير أن رضا الله لن يُنال بمعصيته وأن التمكين لدينه لن يتحقق بمخالفة شرعه، وأن الدعاة يجب أن يسلكوا السبل الموصلة لرضا الله بطاعة الله. فإن كان تمكينك في الأرض ثمنه التخلي عن شرع الله بعضه أو كله أو طلب رضا الناس في سخط الله فلتعلم أنك قد ضللت الطريق وإن حصلت مكسبا دنيويا لبعض الوقت. ومن تلبيس إبليس أنه قد يوهم البعض أن طالما كانت غايتك عظيمة فلا مانع من استخدام أية وسيلة موصلة لها وإن كانت حراما. فالأصل أن السعي لتمكين دين الله في الأرض غايته رضا الله فلن ننال رضا الله بما يجلب سخطه في الدنيا وعقابه في الآخرة.
3- التمكين يتطلب حسن التوكل على الله لا التواكل
ونعود للآية 21 من السورة وفيها إشارة لطيفة إلى أن تمكين الله عز وجل لأوليائه لابد له من أسباب؛ فأتت الإشارة إلى القوة التي امتلكها نبي الله يوسف (العلم بتأويل الأحاديث) مقرونة بالتمكين في هذا الموضع، وإن كان ذلك قبل تحققها ضمن السياق الزمني لأحداث القصة للتأكيد على الارتباط الوثيق بين كليهما. فوعد الله بالعون والمدد لعباده المؤمنين يجب ألا يُفضي بهم إلى التواكل، وإنما يجب أن يتوكلوا على الله حسن توكله ويأخذوا بكل ما وسعهم من أسباب لتحقيق التمكين وإنفاذ وعد الله.
وفى قصر العزيز اجتهد نبي الله يوسف في تحصيل العلم النافع فإلى جانب درايته بتعبير الرؤى فقد أظهر درايته بشئون الاقتصاد كما سيتبين حينما اقترح على الملك كيفية التخزين الصحيح للحبوب، ثم توليه إدارة الأزمة بكاملها. وهذا إن دل فإنما يدل على قهر الأعذار. فنبي الله يوسف في بيت العزيز بين حالين: الأول أن يكون منعما في قصر كبير وزراء مصر ويعامل بمثابة الولد، وفى هذا فتنة قد تصرفه عن طلب العلم والانشغال بما ينفعه.
والحال الثاني أن يكون عبدا لا يملك قرار نفسه أو حرية التصرف في شئونه ووقته، فيتعلل بذلك للانصراف عن تحصيل العلم. ولكن نبي الله قهر كل تلك الظروف والملمات وكسر كل الأطواق التي قد تكبله عن تلقى العلم النافع الذي سيكون مصدر قوته وسبيل تمكينه. ولذا فلا مجال للحديث عن اليأس والإحباط في حياة المصلحين العاملين للتمكين لدين الله وشرعه مهما نزل بهم من نوازل، أو توالت عليهم النكبات، ويحضرني هنا وصية الإمام البنا للمصلحين من أبناء هذه الأمة:
«لا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابه، ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد«.
4- التمكين يلزمه استحضار معية الله وعدم استبطاء نصره.
وهذا من أعظم المعينات على استمرار السعي حتى بلوغ الهدف. فيجب على الداعية والمصلح أن يكون قلبه حاضرا وحواسه منتبهة لالتقاط آيات الله في تأييده ولطفه فيما يحل به.
فمن لطف الله بعد أن مسخ الشيطان فطرة إخوة يوسف، وبدل مشاعرهم تجاه أخيهم الصغير، فملأهم غيرة وحقدا أفضى بهم إلى محاولة قتله، أتى تدبير رب العالمين بأن زرع حب يوسف في قلب الأغراب عنه فدفع ذلك عزيز مصر الذي اشتراه لأن يكرم مثواه وينزله منه منزلة الابن لا العبد.
وهنا يحضرنا قول رب العالمين في سورة الأنفال:
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)}.
فمكر الله للمؤمنين وعنايته بهم فوق كل مكر، وإن كان مكر الكافرين والشيطان من خلفهم لتزول منه الجبال.
والأذى الذي طال نبي الله يوسف لم ينتهِ عند حقد إخوته عليه ومحاولتهم التخلص منه وما تبع ذلك من استلاب حريته، وإنما ظلت الاختبارات والمحن تلاحقه في بيت العزيز بعدما كبر وصار شابا يافعا أغوى جماله امرأة العزيز ففتنت به ومعها نسوة من زوجات كبار الدولة. ولأنه استعصم ورفض الاستجابة لمطالبهن والتجاوب معهن فيما حرّمه الله سُجن ظلماَ بتآمر من زوجة العزيز مع رجال القصر.
{قَالَتْ فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ۖ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ۖ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33)}.
ومرة أخرى كان السجن والظلم الواقع عليه سببا في تمكينه إذ رافقه في السجن فتيان كان أحدهما سببا في تقديم يوسف عليه السلام فيما بعد للملك لإنقاذ البلاد من خطر المجاعة التي ألمت بها.
وفى هذا التدبير الخفي من رب العالمين إشارة للمؤمنين الواثقين بنصر الله أن كل أذى تلاقيه في سبيل الله ليس بالضرورة أن يكون شرا لك ولدعوتك.
{فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]
ولزيادة الاطمئنان في نفوس المؤمنين وتأكيدا للمعنى في نفوسنا ختم رب العالمين الآية (21) بقوله:
{ ۚ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }
فلا يفتننك وأنت المؤمن الواثق بنصر الله علو الكافرين لبعض الوقت أو طول حال الاستضعاف لعباده المؤمنين وتباطؤ نصرهم. فقدر الله نافذ ومشيئته مقدمه فوق كل مشيئة ولكن لكل أجل كتاب.
{وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [الكهف:59].
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]
5- التمكين يتطلب ألا تستصغر عملا أو تقلل من نتيجة
فغاية المسلم المصلح دوما هي نشر دينه ودعوة الناس للتمسك به وبفضائله بما تيسر له من وسائل طمعا في رضا الله. فحديثك الفردي ومحاضرتك وسط الجماهير وتبوئك لمنصب أو قيادة صغرت أم كبرت ما هي إلا وسائل لتحقيق الغاية الكبرى وعلى قدر الإخلاص وعظم الوسيلة يكون عظم التأثير. والداعية الحق يجب ألا يعدم الوسيلة التي توصله لغايته، فيجب أن تظل دعوتك دوما في قلبك ونشرها والتمكين لها نصب عينيك، وهذا ما تعلمناه من نبي الله يوسف الذي لم يحل السجن والظلم بينه وبين نشر دعوته.
{ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ۖ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۖ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ۖ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ۚ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)}
فكان تعريفه بدينه وإيمانه للشابين اللذين رافقاه في السجن سابقا لإجابة طلبهما. فالطريق للغاية الكبرى بإصلاح المجتمع يمر عبر ما يمكن أن نسميه انتصارات صغيرة بنصح الأفراد والأخذ بأيديهم وهدايتهم لطريق الله القويم. ويجب ألا تألو لذلك جهدا أو تستصغر فيه نتيجة، ولتعلم أن الغرس والبذر سيزهر يوما بإذن الله.
وروى الشيخان من حديث سَهْلِ بن سعد عن النَّبيَّ ﷺ أنَّه قَالَ لِعَليًّ رضى الله عنه: "فواللَّهِ لأنْ يهْدِيَ اللَّه بِكَ رجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لكَ من حُمْرِ النَّعم".
وقد أتى هذا الحديث يوم خيبر للتأكيد على أن الغاية العظمى من الفتح هي هداية الناس ودعوتهم لدين الله.
6- التمكين يلزمه نقاء الرسالة وإبراز تفردها
فكانت دعوة الصديق يوسف عليه السلام لرفيقيه في السجن في الآيات من 37 حتى 40 واضحة ناصعة حاسمة منيرة (كما قال صاحب الظلال) أوضحت كل معالم الدين وكل مقومات العقيدة. خاطب فيها فطرتهم النقية التي قطعا ترفض تعدد الآلهة والأرباب، كما أكد على تفرد هذا الدين بشموله فهو يجعل منك وما تملك لله لا أن تشرك معه أحد غيره فتعمل بمقتضى ما لقيصر لقيصر وما لله لله. ويجب أن يعلم الداعية أن الوضوح والمصارحة مع جمهور الدعوة من أهم عوامل بناء الثقة معهم.
7- التمكين يلزمه اليقين برب الأسباب قبل الأسباب
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42]
أراد يوسف ـ عليه السلام ـ أن يرفع التماسا للملك لينظر في أمره ومظلمته لعله يعفو عنه ويطلق سراحه من باب الأخذ الأسباب، ولكن الشيطان على الدوام حاضر في معارك الحق والباطل. فذكرنا رب العالمين بحضور الشيطان بنفسه في هذا المشهد دلالة على استمرارية حربه ضد البشر عموما والمصلحين منهم خاصة؛ فأنسى ساقي الملك طلب يوسف ليمكث نبي الله في السجن بضع سنين قدرها المفسرون بسبع لتظل الدعوة حبيسة الجدران بحبس أهلها.
وتأكيداً لضعف كيد الشيطان وأن مكر الله لعباده المؤمنين يبطل مكر الشيطان، وأن ما قدره الله لأوليائه فيه عزهم ونصرهم، وإن بدا لنا خلاف ذلك. كانت أمنية نبي الله أن يخرج بعفو، وفى هذا العفو قد لا تنمحي التهمة التي ألصقت به ظلما، ولكن قدر الله وترتيبه في تلك السنوات السبع أن هيأ الأرض كلها لتعمل لصالح نبي الله القابع في سجنه وحيدا مظلوما. فأصاب الأرض القحط والجوع ومن قبل وقوعه أرسل إشارات ذلك الأمر لملك مصر في منامه ليكون ذلك سببا في خروج نبي الله من السجن ولكن خروجه في هذه المرة كان مختلفا. فقد رُد له اعتباره، وبُرئ مما نُسب إليه ظلما، واعترفت النسوة على أنفسهن، وبرأن يوسف ـ عليه السلام ـ وكذا فعلت امرأة العزيز. فمكر الشيطان به أن يزيد بقاءه في الحبس، وكان مكر الله له أن تكون تلك الزيادة سببا في خروجه مرفوع الهامة، عزيز النفس، مبرأً مما نسب إليه ظلما وزورا.
{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ۚ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ ۚ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)}
فالأخذ بالأسباب يجب ألا ينسينا رب الأسباب، ولا يأخذنا الشطط لنستغرق في الأسباب وحدها دون تذكر مسببها والمصرف لها باللجوء إليه والتضرع والتسليم والرضا بقضائه.
8- التمكين يحتاج نفسا سامية تبادر إلى الخيرات
فعندما ذهبوا للصديق في سجنه القابع به مظلوما لسنوات طوال يسألونه تعبير الرؤيا لم يساومهم على ما عنده من علم فيطلب منهم الإفراج عنه أولا، وإنما بادر بتأويل رؤيا الملك، ولم يكتف بذلك، بل قدم لهم الحل مفصلا لكيفية مواجهة الكارثة المقبلة لما رآه من خطر محدق بالبشر كلهم. وهذه النفسية العظيمة القوية إنما يحتاج إليها المصلحون، فالأمة لن تنفك تحتاج إليهم وإلى جهودهم، وإن استدعاء مظلوميتهم وقت احتياج الأمة إليهم بما يقعدهم عن نصرة أهليهم وذويهم قد يكون سبباً في إفساد أكبر يعم الصالح والطالح.
9- التمكين يحتاج إلى المبادرة وحسن استغلال الفرص
{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)}
كان هذا رد نبي الله على الملك حين اصطفاه وقربه منه ورفع مكانته إلى مرتبة المستشارين والقادة. لم يتهرب نبي الله من المسئولية وهو يعلم تمام العلم أن البلد مقبلة على مجاعة لن يجوع فيها الناس وحسب، بل ستتقلب أفئدتهم وتسوء أخلاقهم وقد تعم الفوضى إذا فتك بهم الجوع. وفى مثل تلك الحالات يكون الحكام والدائرة المحيطة بهم هم أول الناس استهدافا سواء بالقول أو القتل. وهذا السلوك إنما هو ديدن الأبطال والقادة الذين خلدهم التاريخ، وفى هذا قال طرفة بن العبد في معلقته:
إِذَا القَوْمُ قَالُوا مَنْ فَتَىً خِلْتُ أنَّنِـي عُنِيْـتُ فَلَمْ أَكْسَـلْ وَلَمْ أَتَبَلَّـدِ
ونبي الله إذا يمضي نحو هذه المهمة إنما يمضي إليها متسلحا بعلمه ومواهبه التي وهبها الله إياها، غير مدفوع بحب الجاه والتعلق بالسلطان وإنما بالرغبة الأكيدة في نفع الناس ونشر دين الله في الأرض حين يمثل بإيمانه وعقيدته النموذج الملهم للناس.
وختاما،
اقترن ذكر التمكين لنبي الله يوسف بعدما تحقق وصار واقعا في الآية (56) بقول الله عزوجل: "نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" لنتذكر أن مردّ الأمر إلى الله وحده، وأن النصر والتمكين في الأرض إن تحقق لعباد الله المؤمنين فإنما يكون باصطفاء الله وتقديره، وهذا أساس من أسس إيماننا بقدر الله وقضائه.
وحتى لا يكون تحقيق النصر أو التمكين في الدنيا هو الهدف والغاية الأسمى أو الوحيدة عند المؤمنين جاءت البشرى من الله بأنه لا يضيع أجر المحسنين. فأنت وإن لم تحقق مبتغاك في الدنيا بعدما استفرغت وسعك مبتغيا وجه الله ـ عز وجل ـ فهذا لن يضيرك في شيء لأن الله لن يضيع أجر ما بذلته وستنال ثوابه في الآخرة. وهذا الأجر العظيم في الآخرة قد ادخره الله عز وجل لعباده المؤمنين الذين تلمسوا رضا الله في كل خطواتهم وصاحبت تقواهم إيمانهم بالله، وهم يتحركون لنصرة هذا الدين والتمكين له في الأرض، فكانت الوسيلة عندهم شريفة كما الغاية.
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.