د. توفيق زبادي
أستاذ التفسير وعلوم القرآن
لا بد لكل صاحب عقيدة ودعوة من أنصار ينهضون معه، ويحملون دعوته، ويحامون دونها، ويبلغونها إلى من يليهم، ويقومون بعده عليها.
وإذا نظرنا إلى حالة الأنبياء المرسلين إلى الخلق رأيتهم بهذه الحال بحسب أحوالهم خصوصاً خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم فإنه في الذروة العليا من كل صفة كمال، وكان له من الأعوان على الحق من الصحابة فمن بعدهم ما ليس لغيره .
أولاً: إبراهيم عليه السلام يطلب العون من إسماعيل عليه السلام في بناء البيت الحرام :
قال إبراهيم عليه السلام: يَا إِسْمَاعِيلُ إِنَّ رَبَّكَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا.
قَالَ: أَطِعْ رَبَّكَ.
قَالَ: إِنَّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ تُعِينَنِي عَلَيْهِ.
قَالَ إِذَنْ أَفْعَلَ أَوْ كَمَا قَالَ.
قَالَ فَقَامَا فَجَعَلَ إِبْرَاهِيمُ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَيَقُولَانِ } رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ{ ([1])، قَالَ حَتَّى ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ وَضَعُفَ الشَّيْخُ عَنْ نَقْلِ الْحِجَارَةِ فَقَامَ عَلَى حَجَرِ الْمَقَامِ فَجَعَلَ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَيَقُولَانِ: } رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ{ ([2]).
فهل من إجابة إسماعيلية للدعاة في إعادة بناء الأمة؟
ثانياً: عيسى عليه السلام يطلب النصير المؤازر :
قال الله على لسان عيسى عليه السلام: } قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ { ([3]).
قال مجاهد: أي من يَتبعني إلى الله؟، والظاهر: أنه أراد من أنصاري في الدعوة إلى الله؟([4]).
وقال الشيخ رشيد رضا - رحمه الله -: "تَوَجَّهَ إِلَى الْبَحْثِ عَنْ أَهْلِ الِاسْتِعْدَادِ الَّذِينَ يَنْصُرُونَهُ فِي دَعْوَتِهِ تَارِكِينَ لِأَجْلِهَا كُلَّ مَا يُشْغِلُ عَنْهَا مُنْخَلِعِينَ عَمَّا كَانُوا فِيهِ مُتَحَيِّزِينَ وَمُنْزَوِينَ إِلَى اللهِ مُنْصَرِفِينَ إِلَى تَأْيِيدِ رَسُولِهِ وَنَصْرِهِ عَلَى خَاذِلِيهِ وَالْكَافِرِينَ بِمَا جَاءَ بِهِ"([5])، فوهب الله"َ له طائفة من بني إسرائيل فآمنوا به وآزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه"([6]).
وقال ابن عاشور –رحمه الله - قوله: (مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ)، لعله قاله في ملأ بني إسرائيل إبلاغاً للدعوة، وقطعاً للمعذرة. والنصر يشمل إعلان الدين والدعوة إليه([7]).
ولعل سؤالاً يرد على الذهن مُفاده: ما الحكمة في ذكر قصة الحواريين مع عيسى u؟
الجواب :
بينت سورة «الصف» أن حكمة ذكر قصتهم هي أن تتأسى بهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في نصرة الله ودينه، وذلك في قوله تعالى: }يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله { [الصف :14].
ثالثاً: لوط عليه السلام تمنى النصير المؤازر :
وقد تمنى لوط عليه السلام أن تكون له عشيرة وأصحاب ينصرونه كما قال الله على لسانه : } لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ{ ([8]).أي عشيرة وأصحاب ينصرونني، ولكنه كان يأوي إلى الله عزوجل وهو الركن الشديد لكل داع .
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رحمة الله على لوط، لقد كان يأوي إلى ركن شديد - يعني: الله عز وجل -فما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة([9]) من قومه" ([10]) .
رابعاً : النبي صلى الله عليه وسلم طلب النصير المؤازر :
عن أسماء بنت عميس قالت: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بإزاء ثبير([11]) وهو يقول : « أشرق ثبير أشرق ثبير: "اللهم إني أسألك بما سألك أخي موسى } قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي . وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي . وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي . يَفْقَهُوا قَوْلِي. وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي{"([12]).
وكان صلى الله عليه وسلم يقول في مواسم الحج، قبل أن يُهَاجِر: "مَنْ رَجُل يُؤْوِيني عَلى أن أبلغ كلامَ رَبِّي، فإنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أنْ أُبَلِّغَ كَلامَ رَبِّي" ([13]).
فقَيِّضَ الله عزوجل له الأنصار فآووه ونصروه، وهاجر إليهم فآسوه ومنعوه من الأسود والأحمر ، وفي معرض مَنِّ الله I على الرسول r قال تعالى : } وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ {([14]). أي: أعانك بمعونة سماوية ، وهو النصر منه الذي لا يقاومه شيء، ومعونة بالمؤمنين بأن قيضهم لنَصْرِك([15]).
وقد سُمِّي الأنصار بهذا الاسم لنصرتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي أَحَد أقوال المفسرين في تفسير قوله تعالى : } يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ{ ([16]).قيل: المعنى حسبك الله، وحسبك المهاجرون والأنصار، وهذا قول الحسن البصري([17]).
وأخرج البخاري في تاريخه عن الشعبي في قوله } يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ{ قال : حسبك الله ، وحسبك من اتبعك ([18]).
لكن الإمام ابن تيمية –رحمه الله - رد هذا التفسير وقال : "أَيْ حَسْبُك وَحَسْبُ مَنْ اتَّبَعَك اللَّهُ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَعْنَى حَسْبُك اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَهُ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا، ثم قال: وهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّوَابُ الَّذِي قَالَهُ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ ([19]).
وقال ابن القيم: "وهذا المعنى : -حسبك اللّه وأتباعك- وإن قال به بعض الناس فهو خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه، فإن الحسب والكفاية للّه وحده، كالتوكل والتقوي والعبادة([20]).
وقال الشيخ رشيد رضا –رحمه الله : "أَيْ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ كَافٍ لَكَ كُلَّ مَا يُهِمُّكَ مِنْ أَمْرِ الْأَعْدَاءِ وَغَيْرِهِ، وَكَافٍ لِمَنْ أَيَّدَكَ بِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - فَالْحَسْبُ فِي تِلْكَ الْآيَةِ كِفَايَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ صلى الله عليه وسلم ـ فِي حَالٍ خَاصَّةٍ، وَفِي هَذِهِ كِفَايَةٌ عَامَّةٌ لَهُ وَلِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ قِتَالٍ أَوْ صُلْحٍ يَفِي بِهِ الْعَدُوُّ أَوْ يَخُونُ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشُّئُونِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ عَلَى مَعْنَى : وَحَسْبُكَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، أَيْ فَإِنَّهُ يَنْصُرُكَ بِهِمْ . وَلَكِنَّ مُقْتَضَى كَمَالِ التَّوْحِيدِ هُوَ الْأَوَّلُ ، وَهُوَ كِفَايَةُ اللهِ تَعَالَى لَهُ وَلَهُمْ"([21]).
الأنصار وزراء :
وصف أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ الأنصار بالوزراء([22]) في سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ وقت اختيار خليفة للمسلمين فقال: "نَحْنُ الْأُمَرَاءُ وَأَنْتُمْ الْوُزَرَاءُ فَقَالَ حُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ لَا وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا وَلَكِنَّا الْأُمَرَاءُ وَأَنْتُمْ الْوُزَرَاءُ"([23]).
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا لَهُ وَزِيرَانِ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ وَوَزِيرَانِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَأَمَّا وَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ فَجِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَأَمَّا وَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ([24]).
وأثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الزبير رضي الله عنه لكمال نُصرته له، فقال : "إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَاريًا وَحَوَارِيي الزُّبَيْرُ" ([25]) . أي : وزيراً أو ناصراً أو خالصاً أو خليلاً أو خاصة من أصحابه، وقال الحرالي : الحواري المستخلف نفسه في نُصْرة من تحق نصرته بما كان من إيثاره على نفسه بصفاء وإخلاص لا كدر فيه([26]).
فكان الزبير مختصا من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومفضلا عليهم، والمراد أنه كان له اختصاص بالنُصْرة وزيادة فيها على أقرانه وإلا فكل الصحابة كانوا أنصاره.
حَض النبي صلى الله عليه وسلم المتشاركين في تبليغ الدعوة على الاتفاق: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرسل الولاة في الحرب أوصاهم بالاتفاق وعدم الافتراق، كما أوصى معاذاً وأبا موسى بذلك كما ورد في صحيح البخاري: عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ قَالَ يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا([27]).
قال النووي في الحديث: "اتِّفَاق الْمُتَشَارِكِينَ فِي وِلَايَة وَنَحْوهَا، وَهَذَا مِنْ الْمُهِمَّات فَإِنَّ غَالِب الْمَصَالِح لَا يَتِمّ إِلَّا بِالِاتِّفَاقِ، وَمَتَى حَصَلَ الِاخْتِلَاف فَاتَ"([28]) .
وقَالَ اِبْن بَطَّال: "فِي الْحَدِيث الْحَضّ عَلَى الِاتِّفَاق لِمَا فِيهِ مِنْ ثَبَات الْمَحَبَّة وَالْأُلْفَة وَالتَّعَاوُن عَلَى الْحَقّ"([29]).
[1] سورة البقرة127
[2] صحيح البخاري : بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى( وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) ،(3114).
[3] سورة آل عمران52
[4] تفسير ابن كثير : 2/ 46 .
[5] تفسير المنار : 3/ 258 .
[6] تفسير ابن كثير : 2/ 46 .
[7] التحرير والتنوير : 3/ 255 .
[8] سورة هود80
[9] الثروة : العدد الكثير، ( النهاية في غريب الأثر: 1/ 599).
[10] سنن الترمذي : رقم (3116)، قال الشيخ الألباني : حديث حسن.
[11] ثَبير : جَبَل بمنىً.(انظر النهاية في غريب الأثر :2/ 1143).
[12] الدر المنثور : 7/ 7.
[13] أحمد في المسند (3/322) من حديث جابر رضي الله عنه.
[14] سورة الأنفال62
[15] تفسير السعدي : 325.
[16] سورة الأنفال64
[17] تفسير القرطبي :8/ 43
[18] الدر المنثور :4/ 487.
[19] الفتاوى الكبرى : 5/ 160 .
[20] تفسير ابن القيم : ص : 303
[21] تفسير المنار :10/ 64.
[22] الوزراء : جَمْع وَزِير وَهو الذي يُوازِرُه فيَحْمِل عنه ما حُمِّلَه من الأثْقال . والذي يَلْتَجيءُ الأمِير إلى رَأيه وتَدبِيره فهو مَلْجَاٌ له ومَفَزَع . انظر( النهاية في غريب الأثر : 5/ 392 ).
[23] صحيح البخاري : بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ r لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا (3394).
[24] سنن الترمذي : مناقب أبي بكر وعمر ،( 3613).
[25] صحيح البخاري برقم (3719) وصحيح مسلم برقم (2415) من حديث جابر رضي الله عنه.
[26] فيض القدير :2/ 653 .
[27] صحيح البخاري ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب(2811).
[28] شرح النووي على مسلم : 6/ 170 .
[29] فتح الباري : 20/ 202 .