اقتضت حكمة الله عز وجل أن يكتب على عباده الابتلاءات والاختبارات بالمحن وجعلها سُنة من سننه في كونه لينجو من نجا عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، فقال تعالى: (الم {1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت).
ووقت الفتن تكثر الشبهات، ويكثر المتساقطون دون علم نظراً لعدم استعدادهم المسبق لتلك الابتلاءات الحتمية، وقد اجتمع على الأمة الكثير من البلايا بسبب ضعفها وإعراضها عن دين ربها وفتحها أبوابها على مصراعيها لاستقبال أفكار لا تنبع من دينها، وثقافة غريبة على عقول أبنائها، وإعلام مضلل، ونساء كاسيات عاريات، وفنون مكشوفة، وأمهات تخلين، وآباء منشغلين، والركون إلى الدنيا فأصابها داء الوهن الذي أصاب الأمم من قبل فداستها أقدام التاريخ، وصارت فتن كقطع الليل المظلم.
فكيف الثبات على الأمر وسط تلك الفتن؟ كيف السبيل؟
وسائل الثبات وقت الفتن
يتعلق الأمر أولاً وأخيراً بالله عز وجل، فهو سبحانه من كتب على عباده الابتلاء، وهو وحده القادر على رفعه وتثبيت المؤمنين من عباده، فيقول تعالى: (ما أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحديد: 22)، فكما أن الأمر بتقدير الله، فكذلك وسائل الثبات والخلاص تتعلق بالله عز وجل وتبدأ وتنتهي عند شريعته التي تنزلت لهداية البشرية وإنقاذها من هلاكها في الدنيا والآخرة.
1- اللجوء لكتاب الله تعالى:
القرآن وسيلة الثبات الأولى في الشريعة الإسلامية، وذلك بنص الكتاب نفسه، فيقول تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) (الفرقان: 32)، ولذلك أنزله الله عز وجل، فهو كتاب نور وهداية وعصمة للعالمين، وفي ذلك يقول سبحانه: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ {76} وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) (النمل)، وقال تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ {29} قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الأحقاف).
2- كثرة الصلاة:
يقول تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة: 45)، وقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم أمته لأهمية الصلاة في الوقاية من الوقوع في الفتن، فعن أم سلمة هند بنت أبي أمية قالت: استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فزعًا، يقول: «سبحان الله، ماذا أنزل الله من الخزائن؟ وماذا أنزل من الفتن؟ من يوقظ صواحب الحجرات؟ -يريد أزواجه الكرام لكي يصلين- رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة» (رواه البخاري).
3- الاعتصام بالصبر:
كل تعاليم الإسلام لا تتم إلا بالصبر والتصبر عليها، وهو الفارق بين مؤمن ومؤمن مع البلاء المستمر للأمة عامة وللفرد خاصة، فيقول تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ {156} أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له» (رواه مسلم).
4- ملازمة أهل العلم والصلاح:
المرء دوماً يقلد ويتأثر بمن حوله، فإن كان محيطه من الصالحين تشبه بهم، وإن كان من أهل الفساد سقط في برثنهم، فماذا إن كان محيطه من العلماء والصالحين، ولذلك قال تعالى: (فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) (النجم: 29)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الرجُلُ على دِينِ خَليلِه؛ فَلْينظُرْ أحدُكم مَن يُخالِلْ» (واه الترمذي)، والصحبة السيئة تسحب صاحبها عن الله وتبعده فيقول تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً {27} يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً {28} لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً) (الفرقان).
5- حسن التوكل على الله تعالى:
التوكل هو تفويض الأمر إلي الله سبحانه، والركون إليه مع اتخاذ كافة الأسباب البشرية الممكنة، ثم ترك النتائج كلها على الله، وهو علامة من علامات الإيمان، قال تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (المائدة: 23)، (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران: 122)، (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق: 3).
6- الثقة بنصر الله تعالى:
أكدت آيات الله تعالى أن الكرب مصاحب للفرج، فقال تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً {5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح)، والثقة في نصر الله تعني إيمان المسلم بأن الله عز وجل قريب في أوقات الشدة، وأن الظلمة حين تشتد فمعناها أن الفجر قد اقترب، فالمؤمن مع كل فتنة أو محنة أو كرب لا يتزعزع إيمانه، وإنما دائم الثبات وعامل على رفع الكرب ما استطاع لذلك سبيلاً.
7- الدعاء:
عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الدعاء هو العبادة»، ثم قرأ: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر: 60)(1)، والدعاء هو غاية العبودة لله عز وجل، فيه يتذلل العبد لربه فيطمئن قلبه إلى أن خلفه قوة مطلقة تسانده وتؤازره وترفع عنه ما يؤذيه.
8- اعتزال أهل البدع:
عن حذيفة بن اليمان قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم»، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دخن»، قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر»، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها»، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: «هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا»، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» (رواه البخاري).
9- الفرار من الفتن:
وهو يلحق باعتزال أهل الفتن خاصة حين تنتشر؛ «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن» (رواه البخاري).
10- النهي عن قتال المسلم:
المؤمن مأمور بالتعاون على البر مع أخيه المسلم، وليس إيذاءه مهما بلغت الفتن، يقول تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة: 2)، وعن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنكم سترون بعدي أثرة وأمورًا تنكرونها»، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: «أدوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم» (رواه البخاري).
___________________________
(1) رواه أحمد في المسند، والبخاري في الأدب المفرد.