ربما يندرج الجانب الإرادي تحت الجانب النفسي ، إلا أننا أفردناه لأهميته في بناء الشخصية التي تريد أن تبعث أمة؛ فقد كانت همم الإمام الشهيد فوق قدرته ، وقدرته فوق التعب والزمن ، يتسامى فوق الطاقة البشرية ، وأعماله الضخمة الموفقة أشبة بكرامات الأولياء منها بجهود العباقرة ، عزيمة تتضاءل دونها العزائم ، وهمة لا تبلغها العصبة أولو القوة إلا بروح من الله ورضوان .

ومثل ذلك حدث حين أراد أن يصدر مجلة الإخوان المسلمين ولم يكن في خزينة الإخوان شيء ، فجعل جنيهين في جيب أحد الإخوان هما رأس مال المجلة ، وصدر العدد الأول منها بعد ذلك بقليل ، وهكذا برأس مال " جنيهين سلفه " أنشئت مجلة عاشت أربع سنوات كاملة .

وموقف أخر لإرادة البنا التي لا تعرف المستحيل حين تآمر أصحاب مدرسة أهلية في مغاغة على ناظر المدرسة الذي انتمى للإخوان ورأس شعبتهم هناك ، فاستغنوا عنه في وقت لا يستطيع معه الذهاب لمدرسة أخرى ، حيث انتهت كل المدارس من إعداد معلميها ونظارها للعام الدراسي الجديد الذي لم يبق عليه إلا أقل من شهر واحد ، فاستقبل المرشد الخبر وهو يبتسم وقال : " لا بأس إذن ننشئ له مدرسة يكون هو ناظرها وصاحبها " .

ولم يكن لقولة الأستاذ المرشد هذه معنى في عرف العقل والمنطق والقياس للأسباب الآتية :

أولا : لم يبق على بدء الدراسة إلا أقل من شهر واحد

 ثانيًا : أن هذا المشروع إذا أريد تنفيذه فإنه يحتاج إلى رأس مال لا يقل عن آلاف من الجنيهات في ذلك الوقت ، على أن يستغرق تنفيذه إذا وجد هذا المال سنة على الأقل .. فكيف يمكن مجرد التفكير فيه وليس لدى الشعبة ولا لدى المركز العام شيء من هذا المبلغ ؟! .

ثالثاً : إذا فرضنا جدلاً أن مدرسة كاملة المباني وافية بجميع ما يشترط من الشروط الصحية والاجتماعية أنزلت لنا من السماء الآن ، فإن العقبة الكبرى التي لا يمكن تذليلها هي العثور في هذا الوقت على مدرس واحد يتعاقد معه بعد أن ارتبط كل مدرس بمدرسته.

رابعًا : أن إعداد المقاعد  والسبورات لمدرسة كهذه يحتاج إذا وجد المكان والمال إلي عدة أشهر .

خامسًا : إذا افترضنا جدلاً أن هذه المدرسة موجودة بكامل معداتها ومدرسيها ، فإنها باعتبارها مدرسة جديدة إلى عام كامل – مع جميع وسائل الإعلام الميسورة – حتى يعلم الناس بوجودها .. ثم هي لا تبدأ إلا بالسنة الأولي أي بالصف الأول فقط ، لأن الناس لن يثقوا إلا إذا أثبتت نتائجها جدارتها ، لا سيما وفي المدينة مدرسة قديمة أثبتت جدارتها من قبل والجميع يثقون بها .

ويعلق الأستاذ محمود عبد الحليم قائلاً : تلقى وفد إخوان مغاغة وتلقينا نحن الحاضرين من إخوان المركز قولة الأستاذ هذه بابتسامة فيها كل المعاني التي تضمنتها الأسباب الخمسة السابقة ، ولكن الأستاذ المرشد كان مصممًا على قولته حيث كررها أكثر من مرة تكرار الواثق المتمكن .. ومع ارتيابنا بل ما نراه من استحالة في تحقيق هذا المشروع ، فإن ثقتنا التي تفوق كل تصور الأستاذ المرشد جعلتنا نتهم عقولنا ونتهم المنطق والواقع ونصدق ما يقول ، وبمشيئة الله وقدرته بدأت المدرسة في أول أيام الدراسة باستقبال تلاميذها وهي مستوفية جميع ما لا تستوفيه مدرسة إلا بعد مضي أربع سنوات على إنشائها أو أكثر إذ الظروف مواتية ، ورحم الله الإمام البنا الذي كانت له إرادة لا تعرف المستحيل .

منقول بتصرف من كتاب "أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين" للأستاذ جمعه أمين عبد العزيز – رحمه الله.