بقلم: د. رشاد لاشين

تابع: ملامح أسلوب الإمام حسن البنا في تربية أسرته

(11) الاهتمام بلفت نظر الأولاد إلى القرآن الكريم بطريقة عملية بتقديم القدوة:

وكان من عادته- رحمه الله- أن يعتمد في تربيتنا على الأسلوب غير المباشر؛ أسلوب التعريض دون الطلب. وكان في كثير من الأوقات، وخصوصًا في رمضان، إذا حضر المنزل واستراح قليلًا يستيقظ قبل المغرب بساعة تقريبًا، ويدعوني أنا والأخت الكبرى “وفاء” بدعوى أن نُسمِّع له القرآن الكريم. فكنا نمسك المصحف، وننظر فيه، ووالدي يُسمعنا. وكان قد يسهو علينا أن نتابعه، فكان يشير إلى الصفحة التي يقرأ فيها ويقول: “أنا أقرأ هنا”. وقد أدركت لما كبرت أن غرضه- رحمه الله- من هذا العمل هو تعليمنا من حيث لا ندري ولا نشعر كيف نتلو القرآن!

(12) التربية تتميز بالانفتاح المنضبط:

يظن البعض أن الانغلاق وعدم الاختلاط يساعد على التربية الصحيحة للحفاظ على الأبناء من العدوى السلوكية من غيرهم؛ ولكن هذا الانغلاق لا ينتج شخصية سوية ولا يربي كائنًا اجتماعيًّا عليه أن يعيش في وسط مجتمعه ويعمل على إصلاحه؛ نعم قد ينتج شخصًا صالحًا في نفسه فقط ولكن لا ينتج الشخصية الناجحة التي تتعامل مع الجميع وتؤثر في الجميع؛ أما عن العدوى السلوكية فواجبنا أن نرصدها أولًا بأول ونُقدِّم العلاج اللازم لها، وكذلك نحترز لها ببعض الإجراءات الوقائية.

ولقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يسمح للحسن والحسين- رضي الله عنهما- باللعب مع الأطفال في الشارع. تقول الأستاذة سناء: (. وكان يسمح لنا بالذهاب للرحلات المدرسية ذات اليوم الواحد، كما كانت علاقتنا الاجتماعية بالجيران على أعلى مستوى؛ في هذا الوقت كان الجيران معروفين مع بعضهم، وكان يسمح لنا باللعب مع أصدقائنا وكذلك في الأعياد؛ وفي حال قيام بعض الحفلات في المركز العام كانوا يعدون لنا منضدة خاصة بنا نحن، وأقراننا وأحبابنا من الجيران وأهل الشارع من الأطفال).

(13) التدخل الحكيم لحماية الشعائر:

الأب الناجح هو الذي يتابع ابنه في كلِّ الميادين: فقد يهدم الشارع أو المدرسة ما يبنيه الأب في البيت: ومن واجبات الأب ألا يترك الابن ينهزم أمام موجات المادية أو السفور أو تقليد الغرب؛ بل عليه أن يتدخل التدخل الحكيم لحماية الشعائر؛ وتربية الابن أو البنت على تعظيمها في كل مكان وفي كل ميدان.

تقول كريمته سناء: (وأذكر حادثة وقعت مع أختي الكبرى وفاء، فعند ارتدائها الحجاب الشرعي قامت ناظرة المدرسة (مدرسة الثقافة النسوية) بالاعتراض على هذا الزي باعتباره الزي المخالف للمدرسة، وكانت ناظرة المدرسة من الطبقة الأرستقراطية في ذلك الوقت، ولكنها كانت من فضلياتِ المربيات، وقام الوالد رحمه الله بالاتصال بها تلفونيًّا؛ حيث أقنعها بضرورة ارتداء الحجاب للشرع، ومن المفاجآت أن الباص المدرسي الذي كان ينقلنا للمدرسة لا يصل كل منزل بل كان ينقلنا في هيئة تجمعات في مكان قريبٍ من المنازل، ولكن بعد حديث الوالد مع المربية الفاضلة أصرَّت بأن يقوم الباص بنقلنا يوميًّا عودةً وذهابًا من المنزل.

(14) لا تمييز بين الولد والبنت (إعداد راقٍ وتأهيل للبنت على صناعة الحياة):

الذكر والأنثى هما شطرا بناء الحياة والتربية الصحيحة التي تسعى لبناء الأمة لا بد أن تحرص على عدم التمييز بين الذكر والأنثى؛ بل كل منهما عنصر أساسي يجب أن يعد إعدادًا وافيًا بلا تمييز لأحدهما على الآخر. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ساووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلًا أحدًا لفضلت النساء” رواه الطبراني في الكبير والخطيب في التاريخ وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنه.

تقول ابنته سناء: (أما التمييز فلم يكن هناك تمييز بين الولد أو الفتاة، لا من الوالد أو الوالدة، حتى في العقاب ليس هناك تمييز.) ثم تقول: (كان هناك توازنٌ في التربية، فمثلًا وفاء لأنها الكبرى كانت هي سكرتيرته الخاصَّة؛ يصحبها معه في المناسبات العامة حيث لقاءه بالأخوات أو حضور عقد قران أحد الإخوة والأخوات.

وفي سؤال لها عن سبب اختياره لأختها وفاء لتكون بمثابة سكرتيرته قالت: أولًا لكبر سنها يومها ولوجودها المستمر في المنزل بعكس سيف، فكان أغلب الوقت خارج المنزل، وهي أول من كوَّن الأخوات المسلمات، فهي من تأتي الأخوات إليها في المنزل ويتابعن معها.).

ويقول نجله سيف: (كانت الأخت الكبرى وفاء حريصة على تنظيم كل ما يخص الوالد من شئون وأوراق وحاجيات)، وهذا بالطبع أسلوب راقٍ في التربية والإعداد والتأهيل للبنت على صناعة الحياة.

(15) الاهتمام بالمكتبة:

العلم الغزير والثقافة المتنوعة والفقه الواسع من أهم عوامل نجاح الشخصية؛ لذا اهتم الإمام حسن البنا برعاية الجانب الثقافي والعلمي لدى أبنائه، وقد تمثل ذلك في الآتي:

1- إهداء مكتبة خاصة لكل ابن يختارها هو بنفسه يراعى فيها ما يريد تربية أبنائه عليه.

2- تقرير مصروف شهري لشراء الكتب ليختار الابن برغبته ما يريده من الكتب أو المجلات.

يقول سيف الإسلام: (أذكر أنه في إحدى السنوات نقل جزءًا من مكتبة البيت إلى مقر مجلة الشهاب، واشترى عدة مكتبات جديدة للمنزل، وكان نصيبي من هذا التغيير أن فزت بمكتبة صغيرة أهداها إليَّ الوالد، ومنحني مصروفًا زيادة قدره خمسون قرشًا كل شهر لشراء الكتب بمعرفتي وتكوين مكتبة خاصة بي).

(16) الاهتمام بلعب الأولاد وترفيههم والترويح عنهم:

اللعب من أهم عوامل بناء الشخصية لدى الصغار، وقد كان رسولنا الحبيب- صلى الله عليه وسلم- يداعب الصغار ويلاعبهم، ويوجه إلى الترويح عن القلوب ساعة بعد ساعة، والطفل الذي يحقق له والده رغباته ويشبع فطرته باللعب والمرح والمداعبة في جو طيب بعيد عن الفواحش ينشأ سويًّا منسجمًا، أما الحرمان فيدفع الطفل إلى الجري وراء شياطين الإنس والجن الذين يزوغون به هنا وهناك حتى يكون مآله الضياع والانحراف والبعد عن الصراط المستقيم.

تقول سناء حسن البنا: (ودائمًا كان رحمه الله يقوم بإطلاق أسماء للدَّلع لنا جميعًا، وكان يتركنا نقوم نحن أيضًا بإطلاقها عليه، وتقول أيضًا: (وكان يُحضر لنا صندلًا للعب وحذاءً للمدرسة).

وتروى عن رعاية الإمام لهم قائلة: “وفي شهور الإجازة الصيفية والتي كان يقضيها مع الإخوان في محافظات الصعيد والوجه البحري كان لا ينسانا أو يتركنا بلا رعاية، كان يصطحبنا إلى بيت جدي وأخوالي بالإسماعيلية لنقضي إجازتنا هناك ونستمتع ونمرح حيث المزارع الخضراء والحدائق الغناء، وكان أخي سيف يمارس رياضة ركوب الخيل”، وتقول أيضًا: فلقد كنا نقضي أسعد أيام طفولتنا في هذه البلدة الجميلة، حيث مزرعة الجد وقناة السويس وبحيرة التمساح؛ حيث كنا نذهب بعد الانتهاء من العام الدراسي مباشرةً إلى الإسماعيلية، وكان يمكث معنا بضعة أيام ثم يبدأ هو رحلته الصيفية من أقصى صعيد مصر، وكان يزور كل قرية وكل نجع، وكانت الإجازة الصيفية آنذاك ما يقرب من أربعة أشهر، ثم يعود إلى الإسماعيلية ويقضي معنا بعض الوقت ثم نعود إلى القاهرة مع بداية العام الجديد.

(17) الحفاظ على الصحة النفسية للأولاد والخروج بهم من جو الأحزان:

الحرص على ترضية الطفل وتهدئته وتطييب خاطره وإدخال السرور عليه من أوجب واجبات المربي الناجح، فالطفولة البريئة لا يجوز في حقها انكسار النفس ولا حزن القلب، والأب الناجح هو الذي يمسح الدموع ويكفكف الأحزان ويمنع الآلام، وقد كان رسولنا الحبيب- صلى الله عليه وسلم- يقول: “فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني”؛ لذا كان الإمام البنا رحمه الله حريصًا أشد الحرص ألا يرى أحد أبنائه في حزنٍ أو ألم، وتلك مشاعر الأبوة الحانية، وهذا ما يفجر في نفوس الأبناء الحب والحرص والتمسك بالأب والحرص على السير على نهجه، أما الأب الذي يصنع بنفسه أحزان وآلام الأبناء فهذا بينه وبين التربية بون شاسع وشوط بعيد.

تقول الأستاذة سناء حسن البنا عن والدها: (ويأبى دائمًا أن يرانا مكسورِي الخاطر، ففي رحلة أعدَّتها جدتي لزيارة مدينتنا وحضور عرس، وبعد أن قرَّر والدي أن نصطحبها أنا وسيف ووفاء اكتشفنا عند السفر أن جدتي قد ملأت العربة بالهدايا وليس هناك مكان فقرَّرت جدتي اصطحاب سيف ووفاء وتركي فأخذني أبي وقتها وربت على كتفي وقال لي “معلش يا سناء” وأعطاني 25 قرشًا التي كانت تعتبر ثروةً على أيامنا تلك، ورغم ذلك حزنت وأنا في يدي حقيبة ملابسي وأخذها هو وحملها عني).

تقول سناء: (لقد كنت أحب نوعًا معينًا من الشيكولاتة (كورونا بالبسكويت) وكان هناك حجمان فقد كنت أستطيع شراء الحجم الصغير من مصروفي وكان على أن أجمع مصروف يومين أو أكثر لشراء الحجم الكبير، وقد كنت أنتهز قيام مشاجرة بيني وبين شقيقي سيف لأذهب إلي المركز العام وأطلب من الأخ عوض عبد الكريم (عامل التليفون) في ذلك الوقت أن أكلم الوالد لأشكو له سيف فما يكون من الوالد رحمه الله أن يرسل معي أحد الإخوة ليشتري لي شيكولاتة من المحل الموجود أمام المركز العام فأختار هذا النوع الكبير من الشيكولاتة وأعود إلى المنزل فرحة مسرورة).

(18) المتابعة والمراقبة الدقيقة لسلوك الأولاد مع التوجيه غير المباشر:

يقول ابنه سيف الإسلام: (ولعلي أدركت بعد مرحلة معينة من السن أنه- رضي الله عنه وأرضاه- كان يتابع كل تصرفاتي متابعة دقيقة، ولكن دون أن ألاحظ ذلك إلا عندما كبرت، فعندما أستعرض بعض تصرفات الوالد أعرف أنه كان يتابع تصرفاتي؛ أذكر أنني وبحكم سني، كنت قد اشتريت عدة كتب من (درب الجماميز)، ومنها روايات عن المغامرات البوليسية لـ (أرسين لوبين) و (شارلوك هولمز) وغيرهما، وحينما جاء الوالد متأخرًا بالليل وجدني ساهرًا أقرأ في هذه الروايات باهتمام شديد.تركني ولم ينهني عن قراءتها، ولكن حينما انتهيت من قراءة هذه الروايات قال: سأعطيك شيئًا أحسن منها، وبدأ يغذيني ببعض الكتب، منها: سيرة الأميرة ذات الهمة، وسيرة عنترة بن شداد، وسيف بن ذي يزن، وبعض روايات البطولة الإسلامية، ثم بعد ذلك دفع إليَّ بكتاب سيرة عمر بن عبدالعزيز- رضي الله عنه وأرضاه- وغيره من الكتب المفيدة، وشعرت في هذه الأثناء أنه يتابع قراءتي بدقة رغم انشغاله بأموره الدعوة.

(19) حل المشكلات بطريقة مناسبة:

(لا يوجد طفل بلا مشكلات) فالطفولة مرحلة قبل النضج تحتاج إلى التعريف والتفهيم والتوضيح والتدريب وتدبير أمور الخلل وحل المشكلات بطريقة صحيحة تتناسب مع قدرات عقل لم يكتمل نضجه بعد و﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ فإذا كان عقل الطفل ليس في وسعه أن يتصرف التصرف الصحيح الحكيم فكيف نحاسبه ونعاقبه ونُكلفه ما ليس في وسعه، فالأب الحكيم الناجح هو الذي يدرك ذلك، فيندر لجوؤه إلى العقاب لأنه فهم الطفولة فهمًا حقيقيًّا؛ لذا يتعامل معها بما يناسبها؛ فالمهارة الحقيقية تكمن في قدرة الأب على تدريب الابن وتدبير شئونه حتى يكبر وينضح وعندها يمتلك القدرة على السلوك السوي الصحيح: بسؤال سيف البنا عن بعض مشاكل الطفولة التي كانت تقع منه وكيفية تصرف الوالد الإمام -رحمه الله- معه فيها ذكر:

(أنه ذات مرة جاءت مجموعة من الإخوان لزيارة الوالد فاستقبلتهم على الباب وبادرتهم بالسؤال هل أنتم قادمون لزيارتي أنا أم لزيارة الوالد فقالوا نحن قادمون لزيارة الوالد، فقلتُ: “طيب اجعلوه هو الذي يفتح لكم وأغلقتُ البابَ في وجوههم وصرفتهم”، وبعد أن أخبروا الوالد بما حدث مني جاءني رحمه الله وسألني عما حدث فأخبرته بالحقيقة فلم يعاقبني بل عرض عليَّ اتفاقية أعجبتني قال رحمه الله: (ما رأيك يا سيف حينما يأتي ضيوف لزيارتك سأقوم أنا باستقبالهم وإدخالهم والقيام بواجب الضيافة معهم، وحينما يأتي ضيوف لي تقوم أنت باستقبالهم وإدخالهم والقيام بواجب الضيافة معهم)، فقبلت الاتفاقية، وفعلًا هذا ما تمَّ تنفيذه فيما بعد التزم هو والتزمت أنا كذلك. وبسؤاله عن عمره حين وقوع هذه الحادثة قال 10 أو 11 سنةً تقريبًا.

(20) يستخرج حل المشكلة من داخل الشخص بعيدًا عن قهره أو إرغامه:

تقول ابنته سناء: (وأذكر أني كنت في مدرسة “خاصة” ومن ثم حوَّلني إلى مدرسة أميري “حكومية”، وكان هناك مدرسة اسمها (مصر الحديثة)، وكانت مديرتها تقدِّر والدي جدًّا، وكانت تفتح مدرستها لحديث الثلاثاء للأخوات ليسمِعْن الدرسَ من المدرسة، فسألت والدي إن كان عنده بنات للدراسة فأخبرها بـ (نعم)، وأحضرني فأدخلتني الصف الأول بدلًا من ثانية حضانة ولما تدهور مستواي بسبب تدليعها لي نقلني والدي إلى مدرسة أختي وفاء، فذهبت إلى الصف الثاني ورسبت، فلما رسبت قلْت لهم لن أذهب إلى المدرسة.

ومع بداية العام الدارسي الجديد تحدث إليَّ والدي قائلًا: ها يا سناء. فأصررتُ أن لا أذهب، فقال لي طيب أنت ما شاء الله جيدة في المطبخ ويمكنك أن تجلسي وتتعلمي وتساعدي والدتك في المطبخ، فبكيتُ فقال إنك ستساعدين والدتك في البيت، فطبعًا خِفْتُ ورجعت إلى المدرسة، فسألني ستذاكرين وتجتهدين فأجبت بنعم إن شاء الله، وهكذا كان دائمًا لم يكن يجبرنا على شيء، بل يوجهنا بأسلوبه وكان يمكن أن تهابيه ولكن لا تخافين منه).