د.يوسف القرضاوي

مما يدخل في «الفقه» المراد: الغوص في مقاصد الشريعة، ومعرفة أسرارها وعللها، وربط بعضها ببعض، ورد فروعها إلى أصولها، وجزئياتها إلى كلياتها، وعدم الاكتفاء بالوقوف عند ظواهرها، والجمود على حرفية نصوصها.

فمن المعلوم الذي دلَّت عليه النصوص المتكاثرة من الكتاب والسنة، كما دلَّ عليه استقراء الأحكام الجزئية في مختلف أبواب العبادات والمعاملات، وسائر العلاقات الأسرية والاجتماعية والسياسية والدولية: أن للشارع أهدافًا في كل ما شرعه أمرًا أو نهيًا، أو إباحة، فلم يشرع شيئًا تحكمًا ولا اعتباطًا، بل شرعه لحكمة تليق بكماله تعالى، وعلمه ورحمته وبره بخلقه. فإن من أسمائه «العليم الحكيم». فهو حكيم فيما شرع وأمر، كما أنه حكيم فيما خلق وقدر. تتجلى حكمته في عالم الأمر، كما تجلت في عالم الخلق: {أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُ} (الأعراف:54)، فكما أنه لم يخلق شيئًا عبثًا، كذلك لم يشرع شيئًا جزافًا.

وكما قال أولو الألباب في خلقه: {رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ} (آل عمران:191) نقول نحن في شرعه: ربنا ما شرعت هذا إلا لحكمة!

وآفة كثير ممن اشتغلوا بعلم الدين: أنهم طفوا على السطح، ولم ينزلوا إلى الأعماق، لأنهم لم يؤهلوا للسباحة فيها، والغوص في قرارها، والتقاط لآلئها، فشغلتهم الظواهر، عن الأسرار والمقاصد، وألهتهم الفروع عن الأصول، وعرضوا دين الله وأحكام شريعته على عباده، تفارق متناثرة لا يجمعها جامع، ولا ترتبط بعلة، فظهرت الشريعة على ألسنتهم وأقلامهم كأنها قاصرة عن تحقيق مصالح الخلق، والقصور ليس في الشريعة، وإنما هو في أفهامهم، التي قطعت الروابط بين الأحكام بعضها وبعض، ولم يبالوا أن يفرقوا بين المتساويين، ويجمعوا بين المختلفين، وهو ما لم تأت به الشريعة قط، كما بين ذلك المحققون الراسخون.

وكثيرًا ما أدت هذه الحرفية الظاهرية إلى تحجير ما وسع الله، وتعسير ما يسر الشرع، وتجميد ما من شأنه أن يتطور، وتقييد ما من شأنه أن يتجدد ويتحرر.

.....

- المصدر: «في فقه الأولويات.. دراسة جديدة في ضوء القرآن والسنة» لفضيلة الشيخ.