تصاعدت وتيرة المحاكمات والتضييقات في تونس على خصوم الرئيس قيس سعيّد، ما ربطه معارضوه بارتباك النظام وتخبطه وتراجع شعبيته، في مقابل اتساع دائرة الرفض ومناهضة الانقلاب.

ودانت غالبية مكونات الطيف السياسي والحزبي المعارض للسلطة في تونس محاكمة عدد من قيادات "ائتلاف الكرامة" عسكرياً، وصدور أحكام عسكرية بالسجن بحق عدد من النواب في البرلمان السابق الذي حلّه سعيّد، من كتلة "الائتلاف"، رغم صدور أحكام في القضية ذاتها في حقهم من المحكمة العدلية المدنية.

ويُحال عدد من قيادات "جبهة الخلاص الوطني" المعارضة على القضاء، فيما تخضع القيادات الأولى لحركة "النهضة" بدورها إلى التحقيق في قضايا لا حصر لها، ويقبع نائب رئيسها علي العريض في السجن منذ أكثر من شهر (بقضية ما يعرف بملف التسفير إلى بؤر القتال).

ويلاحق الحقوقي ورئيس لجنة الدفاع عن استقلالية القضاء العياشي الهمامي في قضية رأي (تهمة الترويج ونشر إشاعات كاذبة بهدف الاعتداء على الأمن العام)، يمكن أن تصل عقوبتها إلى عشر سنوات سجناً، وكذلك الأمين العام السابق للتيار الديمقراطي غازي الشواشي، الملاحق بسبب تصريحات إذاعية، وغيرهما من المدونين والصحافيين والنشطاء.

وتعتبر المعارضة أن السلطة صعّدت في استهدافها لخصوم الرئيس، مستعملة أجهزة الدولة لتركيعها وكتم صوتها ولإسكات الصحفيين والمدونين وتخويف الرأي العام.

انقلاب سعيّد يدخل مرحلة جديدة

ويعتبر عضو مجلس شورى حزب النهضة محسن سوداني، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنه "من حيث المبدأ، لا يمكن للاستبداد والحرية أن يتعايشا، فالديكتاتورية لا يمكن أن تتحمّل الديمقراطية أبداً"، ويرى أنه لهذا السبب، فإنه "لم يمرّ وقت طويل على الانقلاب حتى بدأ في التضييق على الحريات وكتم الأنفاس ومحاكمة أصحاب الرأي من سياسيين وإعلاميين وغيرهم".

ويشدّد سوداني على أن "تصاعد وتيرة استهداف المعارضين باستخدام القضاء العسكري، دليل على تخبط الانقلاب وشعوره بالضيق تجاه الكلمة الحرة"، ويلفت إلى أنه "بعدما أثبتت الأيام فشله، وبعد تفاقم الوضع الاقتصادي وعجزه عن تقديم الحلول التي وعد بها التونسيين، وبعدما انفض من حوله الجميع وبقي في عزلة تامة، يحاول الانقلاب أن يحوّل أنظار التونسيين ليصرفهم عن فظاعة الوضع".

ويعتبر السوداني أن "استخدام القضاء عموماً، والعسكري منه على وجه الخصوص ضد المدنيين، هو مسلك انتهجه (الرئيس التونسي الراحل زين العابدين) بن علي وانتهى به إلى مصير غير محمود، حيث ذهب هو وبقي معارضوه"، ولذلك، برأيه، فإن "هذا النهج لا أفق له، ولن يؤدي سوى إلى تفاقم الأزمة وتعقيدها، كما لن يفلح طويلاً في إلهاء المواطنين عن مآسيهم اليومية لتوفير لقمة العيش ومواجهة أثقال الفقر والخصاصة وانعدام المواد الأساسية وغلاء الأسعار".

من جهته، يقول نائب رئيس حزب العمل والإنجاز أحمد النفاتي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "تصاعد وتيرة المحاكمات السياسية، مدنية كانت أو عسكرية، سواء باستهداف حرية التعبير عبر المرسوم 54 (أصدره سعيّد ويتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال)، أو استهداف رموز الأحزاب، يحقق عدداً من الأهداف التي تخدم الانقلاب".

ويذكر النفاتي من بين الأهداف "إرضاء أنصار الانقلاب والاستجابة إلى مطالبهم وشحنهم للدور الثاني للمحطة الانتخابية المقبلة، ومغازلة المقاطعين للدور الأول للانتخابات وتحريك مشاعر الغضب لديهم من العشرية السابقة، والتنكيل بالرموز السياسية والمدنية الفاعلة ضدّ الانقلاب وإفراغ السّاحة منها". يذكر أن الدور الأول من الانتخابات التشريعية أجري في 17 ديسمبر الماضي، فيما ينتظر إجراء الدور الثاني في 29 يناير الحالي، بناء على قانون جديد للانتخابات أقرّه الرئيس. ويعتبر النفاتي أن من بين الأهداف أيضاً "ترهيب بقية المواطنين لإخراس أصواتهم ومصادرة حقهم في التعبير".

استسهال محاكمة المعارضين

وبرأي نائب رئيس حزب العمل والإنجاز، فإن "هذا السلوك متصل بكل دكتاتور على مرّ التاريخ يضيق ذرعاً بكل صوت حر، وسرعان ما يوظف أجهزة الدولة لقمع معارضيه"، ويوضح أن "أفضل مثال لذلك هو بن علي الذي صبر لمدة سنتين 1988-1989 ثم انقض على معارضيه، بداية بالإسلاميين ثم اليساريين والقوميين ثم كل صوت ناقد".

ويبين النفاتي أن "سعيّد يسعى إلى حثّ الناخبين على الإقبال بكثافة للتصويت في الدور الثاني من الانتخابات التشريعية بعد أسبوع، خصوصاً بعد الفشل الذريع الذي شهده الدور الأول، ويعتقد أن التنكيل بالرموز السياسية لما قبل 25 يوليو 2021، فترة العشرية الماضية، من قيادات حزبية ونشطاء حقوقيين وإعلاميين، كفيل بترميم ثقة التونسيين فيه ودعمهم لمنظومته الجديدة". ويرى المتحدث نفسه أن هذه الطريقة "هي الورقة الوحيدة التي لا تزال لدى الرئيس التونسي بعدما تبين عجزه عن إدارة الدولة وإيجاد الحلول للأزمة الاجتماعية والاقتصادية الخانقة للتونسيين".

ويلفت إلى أنّ "كلّ هذه الإجراءات ليست اعتباطية، بل هي مدروسة ضمن خيط ناظم هو امتداد لتفعيل المرسوم 80 الذي كان مقدّمة لتفكيك منظومة الثورة ودستورها ومؤسساتها لفرض منظومة جديدة من دون المرور عبر الآليات الدّيمقراطية النزيهة والشفافة".

المعارضة التونسية تنجح في إرباك السلطة

بدوره، يعتبر عضو جبهة الخلاص رضا بلحاج، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "سلطة الانقلاب تقوم بتوظيف القضاء لتصفية الخصوم السياسيين واستهداف المعارضين"، ويبيّن أن "هذا يؤكد نجاح المعارضة في إرباك السلطة ويبين توسع دائرة المستهدفين باتساع حجم الرفض وازدياد مكانة المعارضة ووزنها".

ويلفت بلحاج إلى أن "هذه المحاكمات والتحقيقات التي تستهدف مكونات جبهة الخلاص والمعارضين للانقلاب، الهدف منها إسكات المعارضة وتخويف الرأي العام وإلهائه عن القضايا الحقيقية".

بدوره، يعتبر رئيس حركة عازمون عياشي زمال، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "تصاعد وتيرة محاكمات المعارضين وإجراءات المنع من السفر، تعكس خوف هذا النظام وعزلته الداخلية والخارجية". ويشير زمال في هذا الصدد، إلى أن "هذا النظام فقد مشروعيته بعد انتخابات 17 ديسمبر 2022 (في إشارة إلى نسبة التصويت التي لم تتجاوز 11.50 في المائة)، وفقد شعبيته بعدما بان للجميع أنه حكم فردي يرفض كل حوار فضلاً عن كونه حكماً عاجزاً عن إنقاذ البلاد من أزمتها".

وبرأيه، فإن "ما نخشاه فعلاً هو استسهال محاكمة المعارضين، وحتى صحافيين ومدونين، لمجرد تصريح إعلامي أو تدوينة على مواقع التواصل، وعلى الرغم من تعهدات الرئيس قيس سعيّد بكون الحريات والحقوق الأساسية مُصانة، فإن الوقائع تدحض ذلك".

ويفيد زمال بأن "هذه المحاكمات تكشف حقيقة ما يجري في تونس من استهداف للمكاسب الديمقراطية والحريات، وحتى الحق في محاكمة عادلة تحترم استقلالية القضاء"، وزاد الأمر برأيه، "منذ صدور المرسوم سيئ الذكر عدد 54 والذي ترفضه كل القوى التونسية".

ويعتبر زمال أن "تصعيد السلطة ضد المعارضين دليل على الأزمة العميقة التي تعيشها السلطة، فمنظومة 25 يوليو 2021 فقدت شعبيتها، وعجزت عن تحقيق وعودها الشعبوية، بل بالعكس، زادت الأوضاع سوءاً على جميع الأصعدة".

    المحاكمات محاولة لإرضاء أنصار الانقلاب

ويشير رئيس حركة عازمون إلى أنه "لم يعد للسلطة الحالية ما تقدمه للشعب سوى مزيد من الغلاء والنقص في المواد الغذائية والأدوية، وليس أمامها لإجبار المعارضين على السكوت إلا المزيد من التعسف في المحاكمات، واستهداف القيادات السياسية والإعلاميين ونشطاء المجتمع المدني"، ويشدد على أن "هذه السلطة تشعر بالعجز والعزلة، وهو ما يجعلها خائفة، ولذلك ننتظر تصاعد وتيرة العنف والمحاكمات خلال الفترة المقبلة".

من جهته، يبيّن القيادي في ائتلاف الكرامة زياد الهاشمي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "وتيرة المحاكمات للمعارضين تصاعدت، وخصوصاً العسكرية التي أصبحت مهزلة قضائية وإجرائية، وهنا وللمفارقات هذه السلطة فاشلة حتى في تلفيق التهم"، بحسب تعبيره، ويلفت إلى أن "ما حدث في محاكمة نواب ائتلاف الكرامة أمام القضاء العسكري فضيحة وسابقة في تاريخ الإنسانية، فأن يحاكم الشخص في الملف نفسه مرتين، تعسف واضح ودليل قاطع على استعمال القضاء العسكري ضد الخصوم السياسيين".

ويشدّد الهاشمي على أن "المرسوم 54 هو العار الذي سيلاحق قيس سعيّد في التاريخ، وخصوصاً طريقة تفعيله بإجراءات سريعة وأحياناً برقية ضد الخصوم"، ويعتبر أن "كل هذا يحيلنا إلى حقيقة واحدة، وهي أن قيس سعيّد لم تعد لديه أي حلول، لا للشعب ولا للمعارضة، ولم يبق لديه إلا استعمال الرصاص الحيّ لإسكات معارضيه"، بحسب قوله.

أما المتحدثة باسم الاتحاد الشعبي الجمهوري مريم الفرشيشي، فتلفت إلى أن "محاكمات قيس سعيّد باطلة بطلان حكمه، وما يحدث هو تعر لمنظومة الانقلاب التي بدأت تزاح عنها عباءة الشرعية والمشروعية التي لطالما تبجح بها قيس سعيّد، وكل تصرفاته تفضح خور هذه المنظومة وفشلها". وترى الفرشيشي أن "سعيّد بعدما تفرد بالسلطة بداية بالأمر 117 (التدابير الاستثنائية)، ثم عبر دستور يوليو 2022، يواصل اليوم إخضاع البلاد لحالة الطوارئ وما يسمى الحالة الاستثنائية، والغاية الوحيدة لسلطة الانقلاب هي مصادرة حقوق الأفراد وتوظيف مؤسسات الدولة".

وتذكّر الفرشيشي بأن "سعيّد استعمل أدوات الدولة حتى باتت المحكمة العسكرية تحاكم المدنيين في خرق مفضوح لمبادئ المحاكمة العادلة، وفي السياق يعبر الحزب عن تضامنه المطلق مع كل من حوكم محاكمة غير عادلة."

وتلفت إلى أن "الحزب يعتبر أن سعيّد تحايل باسم الإرادة الشعبية ويعد خطراً جاثماً لا مناص من تكاتف كل الجهود السلمية والمدنية لإزاحته"، وتعتبر أن "سلطة الانقلاب صعّدت اليوم لاستهداف المعارضين وقيادات الأحزاب من ناحية أنه كلما ازداد عليه الخناق كلما كشف أكثر عن فشله، ولمحاولة استرجاع شعبيته يستهدف المعارضين عن طريق أدوات الدولة ومؤسساتها".

وتشير الفرشيشي إلى أن سعيّد "جهز لذلك من خلال جمع كل السلطات وهو يستغل مؤسسات الدولة لضرب المعارضين لإلهاء الرأي العام"، وبرأيها، فإن الرئيس التونسي "الذي كان يتخفى بالعباءة الشرعية الشعبية كلما أحس بأن الشعب كشف حقيقته، وبأنه انقلاب، يحاول استدراج الشعب من خلال استهداف المعارضين عبر دغدغة مشاعر بعض المتحمسين لذلك".