بقلم: فؤاد الهجرسي رحمه الله:
قال الله تعالى ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران:79)

1- " ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله " سبب نزول هذه الآية أنه لما جاء وفد نصارى نجران وكان لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حوارات وأسئلة منها : بماذا تؤمن .... بماذا تأمرنا وانضم إليهم وفد من يهود المدينة يسألونه الأسئلة نفسها

تشابه الأمر على هذين الوفدين ظنا منهم أنه صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه كما كانوا يدعون، ويطلب لذاته كما كانوا يطلبون فأنزل الله هذه الآية تأييدا لنبيه ودفاعا عنه لسوء ظنهم به.

والأمر عند هذين الوفدين ينحصر فى شبهتين أولاهما : أن الله لم يختر رسولا أمينا على الوحي ، وهذا سوء ظن بالله جل جلاله ، وثانيهما أن الرسول سيحرف المنهج كما حرفوا مناهجهم؛ فجاءت الآية بالقول الفصل .

" وآفة رجال الدين حين يفسدون أن يصبحوا أداة طيعة لتزييف الحقائق باسم أنهم رجال دين " من الظلال " وتلك صورة موجودة في زماننا ترى أولئك قد انحرف بهم الهوى وزلقت أقدامهم خلف مآرب الدنيا لتتحقق لهم؛ فهم على شاكلة السابقين الذين مثلهم الوفدان وفد نصارى نجران، ووفد يهود المدينة .

والمعلوم على الحقيقة أن الرسول قد اصطفاه الله تعالى وفق علمه والله يعلم أين يضع رسالته، والمعلوم على الحقيقة كذلك أن الرسول يأتيه المنهج من عند ربه أوحاه إليه فأخذ يطبقه على نفسه أولا وكان على الناس أن يعرفوا طبيعة المنهج وفوائده للدنيا والآخرة من دقة التطبيق .

لكن ينفث الشيطان في روعهم فيضلون . قال الله تعالى: " (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الحج:52)

يعنى ... ما أرسلنا قبلك رسولا ولا نبيا فتمنى لأمته الهداية إلا ألقى الشيطان الوساوس والعقبات في طريقه وزين الكفر لقومه وألقى في نفوسهم المخالفة لأمره فلا تحزن يا محمد على معاداة قومك لك فهذه سنة مطردة من عمل الشيطان ضد المرسلين، وكان من عادة الرسول صلى الله عليه وسلم تطبيق ما أوحى عليه على نفسه قبل أن يكلف الأمة بذلك، وهذا أصح دليل على أنه لا يمكن أن يطلب لأي من أمته أن يعبدوه أو يقدسوه – حاشاه – لكنه يدعوهم إلى الله الذي يعبده أمامهم ويطيعه .

وقد ساق الشيخ الشعراوى رحمه الله كلاما معناه تطبيق الرسول منهج الرسالة على نفسه ابتداء ، أمر له خطره ليكون الأسوة والقدوة للناس وهو مفتقد في زماننا فالمنهج موجود لكن لا يجد من يطبقه حتى يقوم الدليل على صحته ونفعه للناس إذا طبقوه والأهم من ذلك أن الذي يعرف الحق ويمارسه في حياته ويطبقه على نفسه لن يدعى انه اله لسلامة فطرته وعميق يقينه .

2- ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون

" ربانيين " أى حكماء علماء أتقياء مصلحين ولكل كلمة من هذه الأربع أثرها فى ذات المؤمن الرباني فهو بهذا النسب متصف بهذه الصفات لا ينطق إلا بالحكمة ولا يصدر إلا عن علم شديد الخشية لربه مصلح لحاله وللناس بالقدرة لا بالكلمة ورضي الله عن القائل " عمل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل لرجل " .

وهو بعد ... أخذ بيد الناس إلى طريق الصلاح ..

وذلك كائن بسبب تعلمه للقران أي تعلمه من الله وأخذه عن الله فهو – جل جلاله – مصدر تلقيه ورائد توجهاته وتفاعلاته وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم " ما من مؤمن ذكر ولا أنثى حر ولا مملوك إلا ولله عز وجل عليه حق أن يتعلم من القران ويتفقه في دينه ثم تلا هذه الآية . رواه ابن عباس رضي الله عنه

ولا يقوم هذا الحق إلا بمدارسة القران وتدبر إشارته وتوجيهاته ومعرفة قيمة الانتساب إليه – جل جلاله – حتى ليكون المؤمن خلقه القران فهو حكيم عالم تقي مصلح.