قدرته على تفادي الأخطاء وتلافي الصراعات

أدرك الإمام البنا – رحمه الله – أن للكون سننًا، وأنها غلابة، وأن من أخطأ استوفى نصيبه من الألم والقرح. وأن علة سقوط النهضات هي الغفلة والغرور، فحذر من سطحية الفكر والأعمال، وأنها تدفع أصحابها إلى المقامرة بالشعار والمغامرة بالجهود.فنأى بنفسه وبدعوته أن يكون أداة صراع داخلي، كما دعا إلى حسن قراءة اللحظة وانتهاز الفرصة، وأعلن أن الفرص تسنح وتمضي، وأنها إذا مضت فقلما تعود، وأن النجاح ليس في الخطة الدقيقة فحسب، ولا في الوقت المناسب بل في اللحظة المناسبة، ودعا إلى حسن الإعداد وتحين الفرص، وانتظار الزمن.

وأعطى الواقع حكمه بعد أن سبر أغواره وعرف دخائله؛ فاقتحمه من أجل استثماره لا من أجل تدميره. «إن للإسلام من قدسيته في النفوس واستقراره ما يسهل على الجميع تناوله وفقهه والاستجابة له والسير عليه متى وجهوا إليه وفي هذا ربح أدبي كبير لا يزهد فيه عاقل».

أدرك أن الخروج على الأمة أمر له خطورته حين يضرب برها وفاجرها، وكثيراً ما يكون الشر الناجم عنه لا يساوي الخير الذي يأتي من ورائه، وخاصة أن ما يريده من التغيير والإصلاح هو غاية بعيدة لا تنال في أيام ولا تدرك في أعوام، لأنها تنظيف رواسب قرون عدة، سرى الفساد فيها إلى كل مكان، كما أنها ليست غزوة فتح تتجلى عن غاية عاجلة، فآثر البطء الحكيم على السرعة العجلة.

لأن التغيرات الفجائية لا تدوم إنما هو الزحف البطيء الذي لا يقاوم ، فأعطى الوسائل حكم المقاصد والغايات، وأعلن أن الوسيلة الدنيئة لا تخدم غاية شريفة، وأن الغاية التي تبرر الوسيلة ترتكب باسمها جرائم لا تحصى، فالعنف الجامح يلوث أي هدف مهما سما.

كان يدرك أن ما يلزم البناء غير ما يلزم الهدم من الإعداد النفسي والمادي ، فاشترط شروطا عالية لكل من أدى بيعته أو التحق بصفه من شروط شخصية وتعبدية وإحسانية وأخلاقية وسياسية واجتماعية واقتصادية..كـتحري النظافة والتطهر، واجتناب العادات السيئة والمألوفات الضارة، والمحافظة على الوضوء والصلاة والجماعة والمسجد، ومراقبة الله عز وجل وتذكر الآخرة والاستعداد لها.

وقطع مراحل السلوك إلى الله بهمة وعزيمة مع دقة الشعور وشدة الحياء وعظيم التأثر بالحسن والقبيح وتذكر الحسنات وعدم نكرأن الجميل وقول الحق ولو على نفسك. وعدم الحرص على الوظيفة الحكومية والتخلي عنها إذا ما تعارضت مع واجبات الدعوة ومقاطعة الصحف والهيئات والأحزاب التي يكون الاتصال بها ضد مصلحة دعوتك. وأن تحرص على القرش فلا يقع في يد غير أخيك المسلم .. وأن تبادر إلى الخيرات دائماً.

وحول اقتران الوسيلة بالقوة أظهر مدى صعوبة اللحظة، فحصرها بين نظرات ثلاث:

نظرة عقلية.. من تجارب الماضي والحاضر بعيدا عن سطحية الفكر والأعمال. وأشار إلى درجات القوة من قوة الإيمان والعقيدة، والوحدة والارتباط، والساعد والسلاح. فدعا إلى قوة الإيمان والوحدة وحذر من قوة الساعد والسلاح. وأن كل أمة تتخطى ذلك أو تتجاهله نصيبها الحرمان أو الهلاك والفناء.

ونظرة شرعية.. جديرة بالنظر. فقد حدد الإسلام للقوة واستخدامها حدودًا وشرط شروط، ووجه القوة توجيهًا محدودًا ليوازن بين نتائجها النافعة والضارة.

ونظرة أخلاقية.. قد تقتضيها الظروف من إعلان الخصومة والمقاطعة وما يقتضيه ذلك من تحمل النتائج في شرف ورجولة ورضاء وارتياح.

كتب يوماً يقول: «إنكم تقتربون من الشدة واللأواء ليس بأيديكم ولكن بظروف دعوتكم وحمق غيركم». فليست الخصومة كما يقولون هي شر ما يبتلى به الناس، فأشر منها الوفاق على الخيانة والغش والرضى بالخسة والدون، وبحياة هي دون الحياة حيث لا شرف ولا مروءة.وكان يدرك أن استعجال النتائج قبل الوسائل هو من صفة الزعماء الأغرار الذين يرضون من الغنيمة بالإياب.

كان يدرك أن بناء حكم جديد إنما يكون بكسب الناس بالاستيلاء على قلوبهم قبل الاستيلاء على أدوات حكمهم، وهو ما يكون بالأسوة والقدوة لا بالأمر بالشدة. فكل انقلاب انبثق من السلطة لم يكن له طابعه الإصلاحي.

كان يدرك أن لحظة التمكين إنما هي لحظة متدرجة، تنجزها الأمة حين تخرج وراء من يتكلم باسمها ويطالب بحقها، فتهتف به وتقتل من أجله.لقد أراد الرجل وهو يتفادى الصراعات ويتلافى الأخطاء أن يفسح لدعوته طريقاً ولأمته إلى جواره مكاناً.

نسأل الله أن يتغمده برحمته ويلحقنا به في الصالحين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .