الوفاء يكون لعهد أو بيعة، والبيعة ميثاق وعهد يُعطيه صاحب الدعوة طائعاً مختاراً لربه، مستسلماً لمشيئته، مدافعاً عن دينه، والوفاء الثابث مناط الاستقامة والثقة ونظافة الضمير في حياة الدعوة. وحقيقة البيعة أنها مع الله، حتى تتحرر من أي ولاءات شخصية أو حسابات مادية، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ﴾.

وصاحب الدعوة حين انتمى لدعوته وارتضاها لنفسه وسيلة يتقرب بها إلى ربه، وأخذ على عاتقه الوفاء بمتطلباتها، كان لا بدَّ له من الوفاء حتى يكتب له الفلاح، وإلا فلا انتماء لمن لا وفاء له. (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَأنَ مَسْئُولًا) (الإسراء 34)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة 1)، ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَأنَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا) (النحل 91).

دعوتنا قامت على الوفاء

قامت دعوتنا على تضحيات عظيمة تحملها الرعيل الأول لهذا الركب المبارك، في صورة تعكس وفاءً عظيماً لها، وتجرداً صادقاً لمبادئها، فها هو قائدها الإمام حسن البنا يقدم حياته ثمناً ووفاء بعهده مع الله بأن يحمل دعوته ويرفع رايته.

ثم تبع الإمام البنا رفاقه وإخوانه الذين تحملوا في سبيل هذه الدعوة الإيذاء والسجن والتشريد، فثبتوا على الدرب أوفياء لعهدهم رغم كثرة الخطوب ووعورة الدروب، حتى وصل الأمر في المحنة أن قضى بعضهم نحبه من شدة التعذيب والأذى، (فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَأبَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَأنُوا). (آل عمران 146).

ولاتزال هذه الدعوة الكريمة – حتى اللحظة – يقدم أبناؤها التضحيات، وفاءً لدعوتهم وعهدهم مع الله. وحسبة لله تبارك وتعالى. وإليكم بعض هذه النماذج في الوفاء والعطاء للدعوة.

1- هل سمعت عن موقف الأسطى علي أبو العُلا؟. هذا الأخ الوفي الكريم الذي باع دراجته ليسهم بثمنها في بناء دار الإخوان ومسجدهم في الإسماعيلية، مع أنها وسيلته اليومية للذهاب إلى عمله، وفضل أن يقدم ثمنها لدعوته، ويمشي هو إلى عمله يومياً ستة كيلو مترات ذهابا ومثلها إيابًا.

أترك لكم الإمام البنا يسرد لنا هذا الموقف العظيم. يذكر الإمام البنا في (مذكرات الدعوة والداعية): «لاحظت أن الأخ الاسطى علي أبو العلا قد صار يتأخر نحوا من نصف ساعة عن موعد اجتماعنا الليلي المحدد، فسألته عن السبب، فاعتذر ببعض الأعذار التي لا تستوجب ذلك. وبالبحث علمت وعلم الإخوان أنه قد خصه من الاكتتاب السابق 150 قرشاً، ولما لم يكن عنده هذا المبلغ، فإنه قد اضطر أن يبيع عجلته ويعود من عمله في نمرة 6 التي تبعد عن البلد 6 كيلو مترات ماشياً، ودفع ثمنها مساهمة منه في اكتتاب دار الإخوان».(1)

دققوا جيداً في معاني هذا الموقف، فهو درس عظيم لنا في التضحية والفداء، والوفاء والعطاء يُعطيه لنا هذا الرجل البسيط (الأسطى علي أبو العلا – رحمة الله عليه)، البسيط في وضعه الإجتماعي العظيم بيقينه، الكبير بمواقفه. يتحمل أن يمشي (6 كيلو متر يومياً) من بيته إلى محل عمله، في سبيل أن يُسهم في بناء وتأسيس دار الدعوة في الإسماعيلية؛ لينال شرف المساهمة، ويحظى بسبق المجاهدة بماله في سبيل الله. مثل هذه المواقف العظيمة لا تنبع من كثرة علم أو فكر، – مع أهمية العلم والفكر – ولكنها تنبع من قلب عامر بالإيمان زاخر باليقين، إيمان هانت معه كل المشاق، وصغرت معه هذه الدنيا وما فيها.

2- هل عرفتم قصة الأخ الذي لبى نداء دعوته لنصرة إخوانه في فلسطين؟. هو أخ سجل اسمه في كتائب المتطوعين للجهاد، وكانت لديه (جاموسة) يقتات منها هو وأطفاله، فقام ببيعها ليشترى سلاحا ليجاهد به اليهود، فقال له رئيس منطقته من الإخوان: يا أخي دع الجاموسة للعيال (يقصد الأولاد)، وحسبك أنك تطوعت بنفسك، فقال له الأخ الكريم الوفي: هل اشترى الله منا النفس وحدها؟ أم النفس والمال، ليعطينا الجنة. وتلا عليه قول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ). (التوبة 111). ومواقف كثيرة على مر تاريخ هذه الدعوة المباركة الكريمة، تثبت وتؤكد هذه الحالة من الوفاء والعطاء.

3- هل سمعتم عن موقف المساومة والخداع الذى فعله فؤاد علام (أحد القيادات الآمنية) مع الإخوان المسلمين فى سجن مزرعة طرة عام 1974م، قبيل الإفراج عنهم؟ وكيف كان رد الأوفياء عليه؟ اسمعوا هذه الواقعة التاريخية الثابتة، التى تؤكد على الوفاء للدعوة ومنهجها، والعزة والإباء أمام المساومات الرخيصة.

بعد نصر أكتوبر قرر الرئيس السادات الإفراج عن الإخوان المسلمين، وتم ترحيلهم من السجون المختلفة وتجميعهم في سجن مزرعة طرة (جنوبي القاهرة)، واجتمع بهم اللواء فؤاد علام، وهو من القيادات الأمنية آنذاك، وقال كلمة لسجناء الإخوان قبل الإفراج عنهم، وقد حاول فؤاد علام في كلمته أن يستغل الفرصة، ويظهر للإخوان أن للأمن دورًا في الإفراج عنهم، كما طالبهم في كلمته بالتعاون مع الحكومة، ومما قاله أيضا: «إن الإخوان تأثروا بالسجن وتحولوا من التطرف إلى الاعتدال». وهو كلام لا يتفق مع طبيعة هذه الدعوة الربانية المعتدلة، التي تميزت بالوسطية، وقامت على التربية والتزكية للفرد والبيت والمجتمع. الدعوة الأبية التي يتربى أبناؤها على الثبات والتضحية والفداء.

وقد عقَّب الأستاذ محمد حامد أبو النصر فى هذا الاجتماع على كلمة فؤاد علام – في حضور إدارة السجن وأمام جموع الإخوان – قائلاً: «إن روح الاعتدال أصل في منهج الدعوة وأخلاق وتعاملات الإسلام، وليس للسجن أي تاثير في ذلك، وكان الأولى أن تقول إن إدارة السجن هي التي تحولت إلى نوع من الآدمية والإنسانية بعض الشيء. أما الإخوان فهم ثابتون على عقيدتهم وبيعتهم لخدمة الاسلام، ولا يعتبرون هذه السنين التي بلغت عشرين عاماً خسارة، بل هي ربح في ميزان حسناتنا يوم القيامة. وأحب أن أصارحك بأن ماجري علينا وعلى عموم إخواننا من تعذيب وتشريد لم يغير من عقيدتنا شيئاً، ولا نزال نحفظ للمحسن إحسانه ونغفر للمسيء إساءته، والله تعالى يعلمنا؛ (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الشورى 40.». ما أجمل الوفاء وما أعظم الإباء!.

الوفاء للدعوة ومبادئها

وقد عبر الإمام حسن البنا في رسالة (إلى أي شيء ندعو الناس؟) حول معنى الوفاء الثابت، فقال: «إن تكوين الأمم، وتربية الشعوب، وتحقيق الآمال، ومناصرة المبادئ: تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو الفئة التي تدعو إليه على الأقل، إلى (قوة نفسية عظيمة) تتمثل في عدة أمور:

– إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف

– ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر

– وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل

– ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمسأومة عليه، والخديعة بغيره».(2)

وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

—————-

(1) مذكرات الدعوة والداعية، للإمام حسم البنا.

(2) رسالة إلى أي شيء ندعو الناس؟ للإمام حسن البنا.