ننقل بتصرف كلام العلامة الدكتور يوسف القرضاوي في الحديث عن أولويات الحركة الإسلامية فيقول:
ضرورة تفرغ الكفايات للعمل الحركي
بعد هذه الفصول، علينا أن نؤكد أنه من اللازم للحركة الإسلامية على المستوى الإقليمي والمستوى العالمي، أن يكون لها رؤية واضحة للمستقبل، ينبثق عنها خطة بينة المعالم، محددة الأهداف، متطورة المناهج، شرعية الوسائل، مرتبة المراحل، علمية التفكير، واقعية النظرة، مرنة التنفيذ، موزعة الأعباء على الأجهزة والمؤسسات المختصة، غير معتمدة على أشخاص بأعيانهم تستمر ببقائهم، وتتوقف بتوقفهم. خطة مبنية على معلومات موثقة، وإحصاءات دقيقة، وبحوث مستفيضة، وتحليلات علمية، ومقارنات موضوعية، ودراسة لكل الإمكانات المادية والبشرية القائمة والمحتملة، ولجميع العوائق المادية والمعنوية، الداخلية والخارجية، واقعة أو متوقعة.
دون تهويل أو تهوين.
يقوم على وضع هذه الخطة جهاز متخصص متكامل من خبراء متمكنين، متنوعي الثقافة، يكمل بعضهم بعضا، يستعينون بكل من يرون الاستفادة منه برأي أو معلومة، من أفراد أو أجهزة وإدارات.
ومن اللازم، قبل وضع الخطة، وبعد وضع الخطة، الاهتمام بأمور ثلاثة: التفرغ والتخصص والمعلومات. وهو ما نتحدث عنه في هذه الخاتمة.
ضرورة تفرغ الكفايات للعمل الحركي
من أهم ما يجب أن تحرص عليه الحركة الإسلامية في خطتها القادمة: العمل بجد على أن يتفرغ عدد من الكفايات في المواقع الإستراتيجية الهامة. وخصوصا في مجال العلم والفكر، ومجال التربية والتكوين، ومجال الدعوة والإعلام، ومجال السياسة والتخطيط.
ولا يجوز للحركة أن تظل معتمدة على التطوع المحض من أناس مشغولين بأعمالهم التي تستغرق جل أوقاتهم ولا يبقى منها إلا فضلات لا يقوم عليها وحدها عمل كبير.
وهذا لا يتنافى مع وجود متطوعين محتسبين ببعض جهودهم وأوقاتهم، فهذا ما لا يستغنى عنه بحال. ومردوده كبير، لسعة القاعدة التي تعمل مقطوعة، بل المفروض أن جميع أعضاء الحركة يعملون متطوعين إلا من فرض عليهم التفرغ لمصلحة الدعوة.
وقد كان الإمام الشهيد حسن البنا يعمل في التدريس عدة سنوات من حياة الدعوة حتى أجبرته ظروف الدعوة وتطور الحركة على التفرغ التام لها.
وكثير من رجال الحركة وقادتها في أكثر من بلد، كانوا يعملون أساتذة في الجامعات، أو في وظائف رسمية متنوعة أو في مهن حرة مختلفة.
ولكن العطاء الأكبر إنما يكون عند التفرغ الكامل للحركة وأهدافها.
ومن الضروري أن يراعى عند التفرغ التنوع والتكامل، حتى تسد كل الثغرات ولا يقع تركيز في جانب، على حساب جانب أو جوانب أخرى، فلا يوجد إسراف إلا بجانبه حق مضيع.
ولا يجوز أن يكون المال عقبة في سبيل هذه الغاية، فإن بذل المال لذلك من أهم ما يتقرب به إلى الله، ويمكن أن يصرف فيه من أموال الزكوات والصدقات والأوقاف والوصايا وغيرها.
بل يجوز أخذ الفوائد من الأموال المودعة في البنوك الأجنبية والمحلية، لتنفق في هذا الجانب، ولا يقال: إن أصلها حرام، لأنها حرام في حق مودعها، ولكنها حلال زلال للمصالح الإسلامية، وتفريغ العاملين للإسلام في مقدمتها.
ولا يجوز للعاملين المخلصين أن يستنكفوا من أخذ الأجر الكافي الملائم لأمثالهم لو عملوا في أي مجال آخر، حتى يستمروا في العمل ولا يتبرموا به، المهم هو العدل في غير إسراف ولا تقتير.
ولكن من اللازم اختيار العناصر القوية، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب دون محاباة لزيد، ولا غبن لعمرو، ولا اعتبار إلا للكفاية والأمانة وحدهما (إن خير من استأجرت القوي الأمين) (القصص: 26).
إعداد المتخصصين النوابغ في شتى المجالات
ومما يكمل ذلك: ضرورة التوجه والتوجيه لإعداد متخصصين في جوانب الحياة كافة.
فنحن في عصر التخصص، بل التخصص الدقيق، ولسنا في عصر العباقرة الموسوعيين الذين يعرفون كل فن، ويفتون في كل علم.
إن الذكاء وحده لا يكفي، والمواهب وحدها لا تكفي.
لا بد من الدراسة العلمية المتخصصة، القادرة على أن تساير العصر، وتلبي الحاجة، وتتقن العمل الذي يسند إليها، وفي الحديث الصحيح "إن الله كتب الإحسان (أي الإتقان) على كل شيء" وفي الحديث الآخر "إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملا أن يتقنه".
وهذا الإحسان أو الإتقان لا يتم في عصرنا إلا بالتخصص، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
خذ مثلا موضوعا كالإعلام، وما يتطلبه من تخصصات متنوعة.
إن كتابة النص علم، وكتابته في صورة حوار (سيناريو) علم، وإخراجه علم، وتنفيذه علم، وتسويقه علم.
والإخراج الإذاعي، غير الإخراج التلفزيوني، غير الإخراج المسرحي، غير الإخراج السينمائي.
وللإعلام اليوم فنون تعد بالعشرات، تقوم عليها ـ أو على بعضها ـ معاهد وكليات، فيها دراسات عالية وعليا.
وإذا أردنا (أسلمة) هذه الفنون، فلن يتحقق ذلك إلا بالمتخصصين القادرين على إيجاد البدائل الإسلامية لما هو واقع الآن.
إن الحركة غنية بالنوابغ من أبنائها، ولكنهم لا يوزعون على المواقع الهامة والمؤثرة والمحتاج إليها توزيعا عادلا.
فكثيرا ما نرى تكديسا في جانب من الجوانب كالطب مثلا، أو الصيدلية، أو الهندسة المدنية، أو المعمارية، على حين نجد أنواعا من التخصصات العلمية النادرة لا يوجد فيها إلا أفراد يعدون على أصابع اليد الواحدة، وقد لا يوجد فيها أحد قط.
ومثل تلك التخصصات المتعلقة بالدراسات الإنسانية والاجتماعية، مثل علوم النفس والتربية والاجتماع والاقتصاد والعلوم السياسية والإعلام ونحوها، وهي التي أصبحت مرغوبا عنها من نوابغ الشباب، حيث يقبلون على التخصصات العلمية وحدها. في حين أن هذه العلوم أوصل بالمجتمع وأكثر تأثيرا فيه، ولهذا اهتم اليهود في أمريكا وغيرها أن يسيطروا على كراسيها، ويستأثروا بنصيب الأسد منها ليقدروا على توجيهها لحسابهم كما يريدون.
وكم من شباب أذكياء متفوقين تتجه ميولهم وقدراتهم الخاصة إلى الدراسات الإنسانية والأدبية، فوجههم ضغط المجتمع إلى الدراسات العلمية، ولو وجهوا حيث وجههم ميولهم وقدراتهم لكان إنتاجهم أغزر، وإثمارهم أوفر.
والحقيقة أن هناك نقصا ظاهرا في العلوم الإنسانية مع ما لها من أهمية وخطر. بل ميدان الأدب، والقصة والنقد، يكاد يخلو من نوابغ الشباب في عدد من الأقطار، ومن يوجد منهم لا يتاح له البروز بالقدر الكافي، وبالشكل المناسب خلافا لما يفعل اليساريون وغيرهم، الذين يروج بعضهم لبعض ويرفع بعضهم من شأن بعض، على حد قول الشاعر:
وبقيت في خلف يزين بعضهم بعضا، ليدفع معور عن معور!
مركز للمعلومات والبحوث
ومن أهم حاجات العصر وأولوياته: إنشاء بنك للمعلومات أو مركز للبحوث والمعلومات على مستوى عصرنا: عصر (الثورة المعلوماتية) كما يحلو لبعضهم أن يسميها، يقوم عليه خبراء متخصصون مدربون، كما قال تعالى: (ولا ينبئك مثل خبير) (سورة فاطر: 14). وتخدمه أجهزة متطورة تلائم مشارف القرن الحادي والعشرين الميلادي.
لقد تنوعت مصادر المعلومات، وتطورت وسائل الحصول عليها، ووسائل تخزينها ثم تصنيفها، ثم الاستفادة منها عند الطلب. فهل أفدنا منها؟
إننا لا نملك معلومات كافية، ولا نصف كافية، عن أنفسنا، بله أن نملك معلومات عن الآخرين، من أصدقائنا، أو من أعدائنا. على حين يعرف خصومنا عنا كل شيء.
كنت في مدينة استانبول مع مجموعة من الإخوة العرب ممن يعملون في قطاع البنوك الإسلامية، ولقينا بعض الإخوة من جمهورية تركستان في الاتحاد السوفييتي السابق، وقالوا لنا: أين مساعداتكم لإخوانكم في تركستان وأخواتها ممن كانوا وراء الستار الحديدي، وقد فسح لهم المجال الآن، ليعملوا ويتحركوا! إنهم في حاجة إلى مساعدات وخبرات من كل نوع: دينية وثقافية وتعليمية واقتصادية، فأين هي؟ ومن يقدمها؟
إن السلطات الدينية المسيحية تحركت منذ وقع هذا الانفتاح ولم تضيع الفرصة كانت المعلومات متوفرة لديها. والخرائط معدة، والإحصاءات والبيانات مهيأة ففي الحال وزعت الأناجيل والرسائل، وانتشر الدعاة، وفتحت في هذه المدة نحو (2000) ألفي كنيسة، ما بين جديد النشأة، وقديم رمم، ومنهوب استعيد. ولا يزال العمل المسيحي للكنيسة ورجالها موصولا مستمدا، فأين العمل الإسلامي في المناطق الإسلامية؟
وتلفت إلى من حولي: ماذا تعرفون عن إخوانكم هؤلاء؟ عن عددهم، عن جغرافيتهم، عن تاريخهم، عن إمكاناتهم المادية والأدبية، عن حاجاتهم، ووحداتنا لا تعلم عنهم شيئا يذكر، ولا نعرف جهة إسلامية تملك معلومات وافية موثقة عنهم بالقدر الذي يشفي الغليل.
إن الحركة الإسلامية، على المستوى المحلي والعالمي، ينبغي أن تعيش عصرها، وتطور نفسها، وتجند كل طاقاتها، بل طاقات المسلمين من حولها. وأن تجعل شعارها هذا الدعاء: اللهم اجعل يومنا خيرا من أمسنا، واجعل غدنا خيرا من يومنا وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها اللهم آمين-