ننقل بتصرف كلام العلامة الدكتور يوسف القرضاوي في الحديث عن أولويات الحركة الإسلامية  فيقول:

الحوار السياسي مع الغرب

ولا بد للحركة الإسلامية ـ بعد هذا الحوار الديني، والحوار الفكري ـ من حوار آخر مع الغرب: حوار سياسي، مع رجال السياسة، وصناع القرار، الظاهرين والمستترين.

وأعتقد أن الحوارين السابقين يمهدان لهذا الحوار الجلل. فالكنيسة ـ وإن عزلت رسميا عن التدخل في السياسة ـ لا يزال وزنها في التأثير على رجال الدولة ولازالت أصابعها تعمل من وراء ستار في شئون السياسة الخارجية، وبخاصة ما يتعلق منها بالإسلام والمسلمين.

والمستشرقون وإن بدا عملهم أكاديميا، لهم صلات لا تخفى ـ أو لكثير منهم ـ بأجهزة الاستخبارات والأمن القومي ووزارات الخارجية.

وهناك من يؤيس من كل محاولة لحوار سياسي مع الغرب، ومن يردد قول الشاعر القديم: الشرق شرق، والغرب غرب، ولا يلتقيان!

ولكن رأينا الغرب التقى مع الهند، والتقى مع اليابان، بل التقى أخيرا مع الصين!

ويقول آخرون: إن الغرب يمكن أن يلتقي مع الهند والصين واليابان، وبعبارة أخرى مع الهندوس والبوذيين والشيوعيين، ولكنه لا يلتقي مع المسلمين، وقد يستدلون لذلك بأقوال لمبشرين ومستشرقين وساسة، عبروا عن حقدهم على الإسلام بعبارات تقطر سما.

وهناك من يسيء الظن بكل من يحاول الاتصال بالغرب أو الحوار معه بأي صورة من الصور، ومن يستغل أي نوع من هذا الاتصال ليقذف أصحابه بالتهم الجاهزة: العمالة والخيانة.. الخ، ولا ننسى هنا ما لقيه الرجل المجاهد الصلب الأستاذ حسن الهضيبي، المرشد الثاني للإخوان المسلمين، من جراء اتصاله بمستر (إيفانز) وقد كان ذلك بعلم رجال الثورة المصرية ورضاهم، ثم لم يلبثوا أن اتخذوه سلاحا ضده، وأداة للتشويش عليه وعلى الحركة ورجالها وسياستها!

وهذا ما ينبغي أن ندركه، ونحسب حسابه، ونعرف كيف نحتاط له، ونحترس من استخدامه ضد الحركة من خصومها.

وهنا لا أنكر أيضا أن عُقَد الحقد على الإسلام، والخوف من الإسلام وأمته، لا تزال تحكم عامة الساسة في الغرب، ولازالت ذكريات اليرموك وأجنادين وشبح الحروب الصليبية، وفتوح العرب والعثمانيين، وأسماء خالد بن الوليد، وطارق بن زياد، وصلاح الدين، ومحمد الفاتح، تقلقهم وتفزعهم.

ومع هذا لا ينبغي أن تحكمنا نحن عقدة الخوف من هذه العقدة، ولا بد من كسر الحواجز النفسية، ومحاولة التحرر من العقد قديمها وحديثها.

وقد تقاربت أوروبا على ما كان بينها من حروب ودماء، وثارات، وتوشك أن تكون دولة واحدة في الأمد القريب.

فلم لا يجوز التقارب مع المسلمين؟

إن منطق الغربيين معروف: أنه لا توجد صداقة دائمة، ولا عداوة دائمة، إنما توجد مصالح دائمة.

ولا مانع عندنا أن ننطلق من مبدأ رعاية المصالح المشتركة بيننا وبين القوم.

وأعتقد أن مصلحة الغرب ألا يعادي ألفي مليون من المسلمين، وأن يكسب ودهم واحترامهم وثقتهم.

ومن واجبنا نحن أن نعمل على تحسين صورتنا عند الغرب، الذي كونها عنا خلال صراعات مريرة، لم تمح من ذاكرة التاريخ، دخلت فيها المبالغات والأساطير.

ولا نجحد أن من بيننا أناسا لا يقدمون صورة حسنة للإسلام، لا من جهة فكرهم، ولا من جهة سلوكهم.

فهم يقدمون الإسلام في صورة العنف والتشدد والصدام الدموي مع الآخرين، وإهمال شأن الحريات، وحقوق الإنسان، ولا سيما حقوق الأقليات، والنساء.

وربما ساعد على ذلك ما هو واقع مشاهد في كثير من بلاد المسلمين، مما قد يظن أنه بعض ثمار الإسلام وأحكامه.

هذه الأوهام المستقرة لا تزول وحدها، ولا تزول بين عشية وضحاها، إنما يمكن أن تزول بحوار صادق النية، طويل النفس، قائم على المكاشفة لا المراوغة، على الاستقامة لا الالتواء، وإن كان هذا في دنيا السياسة أمرا مستبعدا، ولكنه ليس بمستحيل، فلم يعد في السياسة اليوم أمر مستحيل.

إننا إذا أقنعنا قادة الغرب والمؤثرين في سياسته بحقنا في أن نعيش بإسلامنا، توجهُنا عقيدته، وتحكمُنا شريعته، وتقودنا قيمه وأخلاقه، دون أن نبغي عليهم، أو نضمر سوءا لهم، نكون قد قطعنا شوطا كبيرا في سبيل الوصول إلى هدفنا في إقامة المجتمع المسلم الذي ننشده في أوطاننا.

فمما لا شك فيه أن أول ما يعوقنا في طريق هذا الهدف هم حكامنا الذين يقفون لنا بالمرصاد، ويقاومون كل توجه لتحكيم الإسلام في الحياة: الاجتماعية والسياسية والثقافية. وإن أكبر ما يؤثر على حكامنا هو الغرب ورجاله وساسته، بالتنفير من الإسلام، والتخويف من دعاته، والتشكيك في حركاته، بالتصريح حينا، والتلويح أحيانا، وبالطريق المباشر تارة، وغير المباشر طورا.

لهذا كان إقناع الغرب بضرورة ظهور الإسلام موجها وقائدا، لو أمكن، إقناعا لحكام العرب والمسلمين بالتالي وفي ذلك كسب كبير.

الحركة الإسلامية والمؤسسة الدينية الرسمية

ومما يجب على الحركة الإسلامية أن تعيه جيدا وتعمل له في المرحلة القادمة أن تحاول كسب المؤسسة الدينية التقليدية إلى جانبها: رجال الأزهر في مصر والزيتونة في تونس، والقرويين في المغرب، وديبوبند في الهند وباكستان… وأن تجعل من أهدافها الأساسية وفي خططها الرئيسية: التغلغل في قلب هذه المؤسسة بأفكارها وأبنائها، وغزوها من الداخل، وبهذا تحقق جملة من المكاسب القيمة منها:

1- تفادي الصدام برجال هذه المؤسسة، الذين لا يزال لكثير منهم رصيد لدى الجماهير المسلمة، ويملكون التشويش على الحركة، وتشويه صورتها في أذهان العوام، وأشباههم بالحق أو بالباطل وبخاصة من باع منهم نفسه لخدمة السلطان، مما يعوق سير الحركة، ويكلفها الكثير من الجهد والوقت في الدفاع عن النفس، وكشف الزيف، وبيان الحقيقة، وبذا توجه الجهود وتكثف لمواجهة أعداء الإسلام الحقيقيين الذين يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم.

2-الأمل في إصلاح هذه المؤسسة الهامة لتقوم بمهمتها الأصيلة والكبيرة في تعليم الإسلام الصحيح، والدعوة إليه، خالصا بلا شركة، شاملا بلا تجزئة، نقيا بلا ابتداع، متكاملا بلا زيادة ولا نقصان.. وتحريرها من أن تكون أداة في أيدي سلاطين الجور، وعملاء الصليبية والشيوعية، والعمل على أن تكون حصنا منيعا لدعوة الإسلام من كيد أعدائه، وأن تخرج رجال رسالة وعقيدة، لا مجرد موظفين في حكومة.

3- الاستفادة مما لدى هذه المؤسسة من إمكانات التغلغل والتأثير في الشعوب للتوعية بقضايا الإسلام الكبرى، ومآسي المسلمين في العالم، وبواجب شعوب الأمة المسلمة تجاه الفكرة الإسلامية، والأرض الإسلامية، وما تقوم به الحركة الإسلامية في سبيل البعث الحضاري الإسلامي، من علم وعمل وتربية وتكوين، ومقاومة للتيارات الدخيلة التي تزحف على الأمة سرا وعلانية بتدبير القوى المعادية للإسلام، في الخارج، وموالاة من طوابير النفاق في الداخل ـ وبهذا التعاون والتكامل بين الحركة الشعبية والمؤسسة الرسمية، تتسع الجبهة المناصرة للدعوة الإسلامية ومشروعها الحضاري الكبير.

5- إسقاط أعذار الحكومات التي تتهرب من تحكيم الشريعة وتبني منهج الإسلام لتوجيه الحياة، وقيادة المجتمع، والتي تتوكأ على فتاوى بعض الضعفاء والمستغفلين من رجال المؤسسة الدينية الرسمية، وإضفاء الشرعية الدينية على مطالب الحركة الإسلامية وسعيها في إقامة دولة تحكم بما أنزل الله، وتحتضن الإسلام عقيدة وشريعة ومنهاج حياة، ورسالة حضارة وهداية للعالمين.

وقد كان الإمام الشهيد حسن البنا حريصا على أن تكون حباله موصولة بعلماء الأزهر وكان على علاقة طيبة بعدد كبير منهم، وسمعته يقول في حفل أقيم في مدينة طنطا حضره بعض كبار العلماء من المعهد الأحمدي الأزهري: أنتم ـ معشر العلماء ـ الجيش الرسمي العامل للإسلام، ونحن من ورائكم الجيش الاحتياطي!

وهذا ـ بطبيعة الحال ـ لا ينطبق على بعض المؤسسات التي باعت دينها بدنياها، أو بدنيا الآخرين، وأصبحت بوقا للطواغيت، وسيفا يشهرونه في وجوه العاملين الصادقين للإسلام، فهؤلاء لا يجاملون ولا يهادنون ولا كرامة، ويجب تعريتهم على حقيقتهم أمام شعوبهم حتى يحذروا من شرهم.

كما يجب التفرقة بين أولياء الطاغوت الذين أصبحوا آلات في يديه، أو أحذية في قدميه، وبين المستضعفين الذين يكرهون الطاغوت، ولكنهم جَبنوا عن مقاومته ضعفا وخوفا، فهم إن صمتوا عن كلمة الحق لم يتورطوا في النطق بكلمة الباطل. فهؤلاء ينبغي تقدير ظروفهم وإعانتهم على التحرر من الضعف والخوف.

إن المؤسسة الدينية في إيران هي التي صنعت الثورة على نظام الشاه هناك.

ساعدها على ذلك: مالها من حق الطاعة المطلقة على الجماهير الشعبية ـ بحكم تعاليم المذهب الجعفري ـ واستعدادها لبذل الدماء والأموال والأولاد إذا طلبها منهم آيات الله ومشايخ المذهب.

كما ساعدها ما في أيديها من أموال أعطاها إياهم الشعب طواعية واختيارا وهي أموال (الخمس) الذي يفرضه الفقه الجعفري على صافي الدخل أي بنسبة 20% وهي تعطى لعلمائهم نيابة عن الإمام الغائب.

فلم يعد علماؤهم أسرى تحت رحمة الحكومة التي تتحكم في أرزاقهم وأقوات عيالهم، وهي التي تملك توظيفهم، وتدفع رواتبهم، وتعزلهم منها إن شاءت.

لهذا كان من المبادئ الأولية لإصلاح المؤسسة الدينية: أن يكون لها استقلالها العلمي والإداري والمالي، وأن تعود الأوقاف المغتصبة من هذه المؤسسات إليها، ويكون لها حرية التصرف فيها، وبهذا يعود ما قاله بعض الأمراء عن سر قوة الإمام الحسن البصري: احتجنا إلى دينه، واستغنى عن دنيانا.

ولكن المشكلة أن يغدو عالم الدين مجرد موظف في الدولة، لا تحتاج هي إلى دينه، ولا يستغني هو عن دنياها!!

الحركة وفصائل الصحوة

وعلى الحركة الإسلامية أن تجتهد في تكتيل كل الجماعات العاملة للإسلام، وكل فصائل الصحوة الإسلامية لتقف في جبهة واحدة، وصف واحد كالبنيان المرصوص لنصرة الإسلام، والتمكين له في الأرض، وصد التيارات الغازية لأمته، والقوى المعادية لدعوته، وأن يكون دورها إيجابيا في إشاعة أدب الحوار، وفقه الاختلاف والعمل على التقريب بين المختلفين، وإرساء قاعدة التعاون في المتفق عليه والتسامح في المختلف فيه.

لقد جاهد الإمام الشهيد حسن البنا للتقريب بين الجماعات الإسلامية في مصر ووضع (الأصول العشرين) الشهيرة لتمثل (الحد الأدنى) لما ينبغي الاتفاق عليه من المفاهيم.

وهذا ما ينبغي على الحركة الإسلامية في كل حين إذا أرادت أن تحقق أهدافها الكبرى، فهي إنما تقوى بقوة كل الجماعات والفصائل العاملة في الساحة الإسلامية أعنى الجماعات الجادة المخلصة، لا الهازلة، ولا المنحرفة، ولا المحسوبة على الإسلام زورا.

إن أية جماعة إسلامية تخطئ خطأ كبيرا إذا اعتقدت أن بإمكانها وحدها أن تحمل عبء إقامة حكم إسلامي معاصر، قادر على مواجهة مشكلات الداخل ومؤامرات الخارج.

بل الواجب على كل الجماعات والحركات أن تتضامن وتتكاتف فيما بينها، ليتكون من مجموعها تكتل إسلامي قوي، يستطيع أن ينفع الصديق، ويرهب العدو.

وأخشى ما أخشاه هنا أن تتغلب النزعة الأنانية على الأخوة الإسلامية، فتحاول كل جماعة أن تثبت نفسها، وتنفي غيرها، وأن تجعل أكبر همها هدم الآخرين لا بناء نفسها، لتكون جزءا من صرح جماعي أكبر.

أو يتغلب ضيق الأفق، فيضخم من حجم الخلافات الجزئية والفرعية بين الجماعات الإسلامية بعضها وبعض، ويجعل من الحبة قبة، ومن الفروع أصولا، ومن المواقف الاجتهادية أمورا عقائدية، كصاحب رسالة (القول السديد في أن دخول المجلس النيابي ينافي التوحيد)!!

إن إقامة حكم إسلامي قوي يستطيع أن يحدد للأمة دينها، ويرتقي بدنياها لا بد أن تشارك فيه كل الفئات العاملة للإسلام، مهما يكن بينهم من الفروق والاختلافات في المواقف والسياسات، ومعهم كل الشخصيات والأفراد الصالحين والغيورين الذين لا ينتمون إلى جماعات ولا منظمات.

وأعتقد أن الحركة الإسلامية تنجح حقا إذا أمكنها أن تجند كل القوى الإسلامية في هذا السبيل، وتحشدها معها، بحيث تعتبر الجميع أن الدولة دولتهم، وأن الحكم حكمهم، وأن انتصارها لهم، وأن إخفاقها عليهم.