المنعطفات الكبرى في حياة الدعاة

الدنيا .. المنعطف الثاني :

قلنا فيما تقدم أن حياة الدعاة حافلة بشتى العقبات مليئة بعديد المشكلات.. وما لم تكن الاستعدادات الوقائية لدى الدعاة في مستوى يجعلهم قادرين على تخطى مختلف الظروف بسلام وأمان فإن العاقبة قد تكون غير مرضية ومفجعة، ومن عظمة هذا الدين أن نظرته أحاطت بكل الظروف التي يمر بها الإنسان وتتعرض لها النفس البشرية فبينت أسبابها وعالجت مسبباتها..

نظرة الإسلام للدنيا :

فالإسلام اعتبر الدنيا مركز التجارب والفحوص البشرية؛ فدعا الناس لعمارتها والانتفاع بخيراتها وثمراتها، ولكن من غير تفريط ولا إفراط؛ فهو من جانب حض على العمل فيها والكسب منها، ومن جانب آخر حذر من أن تصبح غاية ما ترقى إليه النفس ونهاية ما تدركه الآمال؛ فقرر أن الدنيا دار فانية ستمضى فيها البشرية ما قدر لها من عمر، ثم نتركها إلى الآخرة حيث السعادة والهناء، أو التعاسة والشقاء، وجاءت النذر القرآنية تقول { يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار }{ فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور }.

عوامل الانحراف :

وظني أن عوامل الانحراف في حياة الدعاة لا تتعدى سببين رئيسيين :

أولهما :-

افتقار الدعوة إلى الأجواء الإسلامية النظيفة التي تساعدها على صياغة أفرادها صياغة قوية متينة، بعيدة عن المؤثرات الخارجية والأجواء المفروضة .

وثانيهما :

- إهمال الحركة الإسلامية للمناهج التطبيقية في التكوين مما جعل الدراسات الإسلامية نظرية في أكثر الأحيان وجعل القصد منها لا يتعدى الثقافة والمتعة والاطلاع فكثيراً ما كنا نجد في حياة الدعوة خطباء مفوهين ودعاة لا معين وهم أحرص الناس على حياة.

يا واعظ الناس قد أصبحت متهماً                  إذ عبت منهم أموراً أنت تأتيها

أصبحت تنصحهم بالوعظ مجتهداً                 والموبقات لعمري أنت جانيها

 تعيب دنيا وناساً راغبين لها                           وأنت أكثر الناس رغبة فيها

وقد نرى أفرادا مخلصين، وإخواناً مندفعين لا تكاد أيديهم تصل إلى شئ من متاع الحياة حتى يخروا صاغرين .. وكثيرون هم الذين حلقوا في آفاق الدعوة وبلغوا منازل القيادة، ثم سقطوا إلى الأرض صرعى المغريات والمفاتن ورضوا بالحياة الدنيا من الآخرة { فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهي النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى }.

نهج الإسلام في التكوين : -

ولقد نهج الإسلام في تكوين الشخصية الإنسانية طريقين ليصل بها إلى ذروة الكمال البشرى؛ فهو لامس أول ما لامس مكامن الحس والشعور والتصور والتفكير عند الإنسان لتلفته إلى حقائق الأمور وجواهر الأشياء، وليكون تعلقه بها وسعيه دائما وأبداً وراءها .

أولا :

- بين له مقام الدنيا من الآخرة ومدى صغارها وتفاهتها عند الله، حفاظا عليه من فتنتها وغَوايتها { قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى } ومن لفتات الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حقيقة الدنيا أنه مر وأصحابه يوماً بشاة ميتة فقال لهم: ( أرأيتم هذه هانت على أهلها ؟ قالوا : ومن هوانها ألقوها يا رسول الله فقال: للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها ) وقال أبو هريرة رضى الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ألا أريك الدنيا جميعها بما فيها؟ فقلت بلى يا رسول الله فأخذ بيدي وأتى بي وادياً من أودية المدينة فإذا مزبلة فيها رؤوس الناس وعذراتهم وخرقهم وعظامهم ثم قال : يا أبا هريرة هذه الرؤوس كانت تحرص كحرصكم، وتأمل كأملكم ثم هي اليوم عظام بلا جلد، ثم هي صائرة رماداً، وهذه العذرات هي ألوان أطعمتهم اكتسبوها، ثم قذفوها في بطونهم؛ فأصبحت والرياح تصفقها، وهذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد؛ فمن كان باكياً على الدنيا فليبك، قال فما برحنا حتى اشتد بكاءنا ).

ثانيا :

- حذر الإسلام من أن تصبح الدنيا مبلغ التنافس بين الناس فقال الرسول صلى الله عليه وسلم ( والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم ) ولقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الحرص على الدنيا يورث الطمع فيها والانشغال بها وتكريس الحياة لها فقال: ( من أصبح والدنيا أكبر همه فليس من الله في شئ وألزم الله قلبه أربع خصال : هماً لا ينقطع عنه أبداً وشغلا لا يتفرغ منه أبداً وفقراً لا يبلغ غناه أبداً وأملاً لا يبلغ منتهاه أبداً ) .

ثالثا :

- وحذر الإسلام من أن يطغى حب الدنيا على القلوب فيشغلها عن التزود لآخرتها؛ فحض على الزهد بها وتخليص النفس من أسرها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أحب الدنيا وسر بها ذهب خوف الآخرة من قلبه ) .

وفلسفة الزهد في الإسلام لا تحول بين المرء وبين السعي والعمل والإنتاج وعمارة الدنيا، كما يفهم بعض الناس وإنما غايتها صيانة النفس من عبودية الحياة مع صريح الدعوة إلى السعي والعمل ولقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن حقيقة الزهد فقال: ( أما أنه ما هو بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهد في الدنيا أن تكون بما في يد الله أغنى منك بما في يدك )  وسئل الإمام أحمد بن حنبل هل يكون المرء زاهداً ومعه ألف دينار قال: نعم قيل وما آية ذلك قال : آيته أنه إذا زادت لا يفرح وإذا نقصت لا يحزن.. والدعاة اليوم في خطر شديد من أن تستدرجهم دنياهم وتنحط بهم شهواتهم فيبدأون بالصغائر ثم يقعون في الكبائر وهذه الدنيا التي أخذت زخرفها وازينت واكتملت مفاتنها وتعددت لا ينبغي التساهل معها والخلود إليها فمن تساهل فيها قرضت إيمانه وأفسدت إسلامه وصدق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول محذراً : ( لتأتينكم بعدي دنيا تأكل إيمانكم كما تأكل النار الحطب ) .

فليتق الدعاة صواعق السماء ونزر العذاب وهم يخوضون الغمرات ويواجهون المنعطفات { أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون } .

رابعاً :

 -حض الإسلام على أن يكون الهدف من عمارة الدنيا والعمل فيها واستخراج كنوزها واكتشاف مجهولها، وتسخير أفلاكها إقامة الخير وتحقيق العدل واتباع الحق وليس في ميزان الإسلام فضل لمن ضل هذا الطريق بالغ ما بلغ من العلم والمعرفة والقوة؛ لأنه سيكون سبباً في خراب الدنيا ودمارها، واللفتة القرآنية تلامس صميم هذا المعنى حيث تقول: { من كان يريد الحياة الدنيا زينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون }.

 

منقول بتصرف من كتاب "مشكلات الدعوة والداعية” للأستاذ فتحي يكن - رحمه الله.