مقدمة

لا يستطيع باحث أو دارس منصف لفكرة "الوطن والوطنية " أن ينسى أو يتناسى جهود الإمام حسن البنا في هذا المضمار، فقد اتضح مفهوم الوطن والوطنية لديه من خلال النظرة الموسوعية لهذا المفهوم، واعتبار أن الوطن والوطنية جزء لا يتجزأ من فهم المسلم لإسلامه وتجرده وحبه له، وأن هذا أصل مهم في عقيدة الإخوان المسلمين.

ولم يفهم الكثير من المسلمين هذا المعنى، حتى إن الأكثرية المطلقة من المسلمين باتت تفهم أن الإسلام هو الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج فقط.

ففي مواجهة المضمون الغربي، الضيق لكل من “الوطنية” و”القومية”.. والذي وجد له دعاة وأحزابًا تخندق بعضها عند "الوطنية الإقليمية".. وتخندق بعضها الآخر عند "القومية العنصرية".. وافتعل آخرون – كرد فعل – التناقضات بين الإسلام وبين الوطنية والقومية.. في مواجهة هذا الغلو،

رأينا الأستاذ البنا يبعث – بالتجديد – المنهج الإسلامي الذي يؤلف بين جميع دوائر الانتماء – الوطني.. والقومي.. والإسلامي.. والإنساني – فيسلكها جميعًا في سُلّم واحد.

أصل مفهوم الوطن والمواطنة

في اللغة

وطن بالمكان “يَطِنُ” وَطْنًا: أقام به.

الموطن: الوطنُ. وكلُّ مكان أَقام به الإنسانُ لأَمر.

الوطن: مكانُ إِقامةِ الإِنسان وَمقَرُّه، وإليه انتماؤه، وُلد به أَو لم يولد.

لقد جُبل الإنسان على حب نفسه والمحافظة عليها، كما جبل علي حب العائلة التي ينتسب إليها ومنها خرج إلي الحياة الاجتماعية، فهي مهد الإنسانية الأولي

وبانتشار الناس في الكرة الأرضية وتكوين كل مجموعة متجانسة مجتمعًا يعيشون فيه، انتقل الأشخاص من دائرة العائلة والقبيلة إلي دائرة المجتمع لهذا كان لأفراد هذا المجتمع انتماء إليه بجانب انتمائهم إلي العائلة، وهذا الانتماء يرتب واجبات وينشئ ولاء لهذا المجتمع ويعرف هذا بالمواطنة.

فالمواطن هو الشخص الذي ينتمي بنشأته وتقاليده إلي وطن معين وبذلك يصبح مواطنا طبقا لقانون الجنسية في هذا البلد،

ولكن المواطنة أكثر شمولا من مفهوم الجنسية التي لا توجد إلا مع وجود دولة أصدرت قانونا للجنسية يحدد العلاقة بين الدولة والأفراد.

والمواطنة علاقة سابقة علي وجود الدولة وعلي وجود قانون الجنسية، وهي أعمق وأشمل من الجنسية فقد تمنح الحكومة جنسية الدولة لشخص لم يكن مواطنا في هذه الدولة ويحتفظ بجنسيته الأصلية.

ولقد أدى ظهور مصطلح الوطنية والقومية إلي التساؤل عن موقف الإسلام من ذلك.

فأقصى ما يهدف إليه دعاة الوطنية هو حب الوطن والدفاع عنه، وذلك قد فطرت عليه النفس وأمر به الإسلام، فالنبي قال عن موطنه مكة "ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك”.

وأقصى ما يهدف إليه دعاة القومية هو الاهتمام بعشيرة الإنسان وقومه والذود عنهم.

وكل ذلك قد أمر به الإسلام، وحث عليه فقد جعل الله من درجات الإيمان ونيل درجة الشهيد أن يدافع الإنسان عن وطنه ويفديه بالنفس والمال، قال تعالي: ومَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ والْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ والْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا واجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ ولِيًّا واجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا”.

كما روي أبو داود والترمذي عن النبي - صلي الله عليه وسلم - أنه قال “ من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد “.

ففي المفهوم الإسلامي لا يوجد تعارض بين انتماء الفرد لدينه وأسرته ووطنه ودمه كما لا تعارض بين الروابط التي تربط الشخص بزوجته وأولاده ووالديه.

ويقصد بالمواطنة العضوية الكاملة والمتساوية في المجتمع بما يترتب عليها من حقوق وواجبات، وهو ما يعني أن كافة أبناء الشعب الذين يعيشون فوق تراب الوطن سواسية بدون أدنى تمييز قائم على أي معايير تحكمية مثل الدين أو الجنس أو اللون أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي والموقف الفكري،

ويرتب التمتع بالمواطنة سلسلة من الحقوق والواجبات ترتكز على أربع قيم محورية هي:

أولاً: قيمة المساواة

التي تنعكس في العديد من الحقوق مثل حق التعليم، والعمل، والجنسية، والمعاملة المتساوية أمام القانون والقضاء، واللجوء إلى الأساليب والأدوات القانونية لمواجهة موظفي الحكومة بما في هذا اللجوء إلى القضاء، والمعرفة والإلمام بتاريخ الوطن ومشاكله، والحصول على المعلومات التي تساعد على هذا.

ثانيًا: قيمة الحرية

التي تنعكس في العديد من الحقوق مثل حرية الاعتقاد، وممارسة الشعائر الدينية، وحرية التنقل داخل الوطن، وحق الحديث والمناقشة بحرية مع الآخرين حول مشكلات المجتمع ومستقبله، وحرية تأييد أو الاحتجاج على قضية أو موقف أو سياسة ما، حتى لو كان هذا الاحتجاج موجهًا ضد الحكومة، وحرية المشاركة في المؤتمرات أو اللقاءات ذات الطابع الاجتماعي أو السياسي.

ثالثًا: قيمة المشاركة

التي تتضمن العديد من الحقوق مثل الحق في تنظيم حملات الضغط السلمي على الحكومة أو بعض المسئولين لتغير سياستها أو برامجها أو بعض قراراتها، وممارسة كل أشكال الاحتجاج السلمي المنظم مثل التظاهر والإضراب كما ينظمها القانون، والتصويت في الانتخابات العامة بكل أشكالها، وتأسيس ـ أو الاشتراك ـ في الأحزاب السياسية أو الجمعيات أو أي تنظيمات أخرى تعمل لخدمة المجتمع أو لخدمة بعض أفراده، والترشيح في الانتخابات العامة بكافة أشكالها.

رابعا: المسئولية الاجتماعية

التي تتضمن العديد من الواجبات مثل واجب دفع الضرائب، وتأدية الخدمة العسكرية للوطن، واحترام القانون، واحترم حرية وخصوصية الآخرين.

الوطن والمواطن في نظر الإسلام

إن الله جبل النفس على حب الأوطان وغرس فيها هذه المعاني لترسيخها في النفوس، ولقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى وقت هجرته من مكة إلى المدينة فقال فيما رواه ابن عباس: أما والله إني لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله، وأكرمه على الله ؛ ولولا أهلك أخرجوني منك ما خرجت.

فهذه المعاني قد حض عليها الإسلام، ورسخها في القلوب والعقول، فالولاء للوطن أمرٌ فطري يلازم الضمائر، يحب المرء وطنه ويغضب من أجله لأنه وطنه كما يحب أبويه لا يستبدلهم ولا يتخلى عنهم.

ولله در أحمد شوقي كيف يختصر المعاني حين يقول:

وللأوطــــان في دم كـل حرٍ    يدُ سلفت ودين مستحــــــقٌّ

وحب الوطن فطرة إنسانية مركوزة في النفوس، ولم تزل الشعوب على اختلاف عقائدها وميولها وأجناسها متفقة على هذه الفضيلة، متجاوبة المشاعر مع هذه الفطرة، وما قنع الناس بشيء من أقدارهم قناعتهم بأوطانهم، مهما أصاب هذه الأوطان، وما عمرت البلدان إلا بحب الأوطان.

وقد دَعا النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الفضيلة، وحبب فيها، وضرب المثل الأعلى في ذلك، وصور مشاعره تجاه بلده مكة حين اضطره الظالمون من أهلها للهجرة منها، فقال: ““ما أطيبك من بلد، وأحبّك إليّ! ولولا أن قومك أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيرك”“.

وظل الشعور بالحنين إلى مكة ملازماً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، لا يقدم عليه من مكة قادم إلا سأله عنها، واهتز قلبه شوقاً إليها، حتى فتحها الله عليه، فدخلها قائدًا فاتحاً مُظفَّرا، فخاطبها بنفس الشوق، قائلاً: ““والله إنك لخيرُ أرض الله، وأحبّ أرض الله إليّ الله، ولولا أني أخرِجت منكِ ما خرجت”“.

وكان - صلى الله عليه وسلم - يرق لحال المهاجرين العاشقين للوطن، ويقدّر عواطفهم في الحنين إلى مكة، ويدعو الله أن يحبِّب الله إليهم وطنهم الجديد المدينة كما حبّب إليهم مكة.

وكان حب النبي- صلى الله عليه وسلم - والمسلمين لوطنهم المدينة عجيباً، لدرجة أَنَّه: «كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَنَظَرَ إِلَى جُدرَان المَدِينَةِ أسرع رَاحِلَتَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا».

وكان يدعو المسلمين للصبر على وبائها وشدة حرارتها ويقول: ““لا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَاءِ الْمَدِينَةِ وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي إِلا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيامَةِ أوْ شَهِيدًا”“، إلى آخر ما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الصدد.

وهو درس في حب الوطن عظيم.

ومما جُبِلت عليه الفِطَر السليمة محبة الأوطان؛ لما لها من فضل على الإنسان في تربيته وتنشئته، وتغذيته وتثقيفه وحمايته، ولما لها من آثار عليه في تشكيل سلوكياته وطبائعه.

وإذا كان الوطن هو مهد الإنسان، ومَرتع صباه، ومناط آماله، ومَبزغ فكره، ومسرح نشاطه، ومرعى هواه، ومأمنه من الفزع - فلا بد أن يشعر الإنسان الصادق بحب لهذا الوطن، وبحنين جارف نحوه حين تُبعده عنه ضربات القدر، أو تَحرمه منه أسباب الرزق؛ اعترافًا بجميله، وردًّا لصنيعه ومعروفه.

ولهذا كله جاءت النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، والأقوال المأثورة - لتحضَّ على حب الوطن، ولتقرِّر أن هذا الحب الفطري لا يمكن أن يتعارض مع محبة الله ورسوله، ولتقول: إن الانتماء للأوطان لا ينافي الانتماء للأمة الإسلامية.

الإنتماء للوطن

كل إنسان بفطرته يحب وطنه الذي ولد وتربى فيه، ويحمل له كل معاني الوطنية والتضحية، فنجد الجندي يزد عنه بكل غالى من اجل أن يظل الوطن حرا، فلا ينتظر مالا ولا منصبا، بل يدافع عنه بالعاطفة المشتركة بين الفرد ووطنه.

يقول الشيخ محمد الغزالي: “والبشر يألفون أرضهم على ما بها، ولو كانت قفرًا مستوحشًا، وحب الوطن غريزة متأصلة في النفوس، تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه، ويحن إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجم، ويغضب له إذا انتقص”.

ومن هذا المعنى انطلق مفهوم الإمام البنا للانتماء للوطن، ومن ثم الدفاع عنه وتحريره من كل مغتصب، فيقول: إن بقاء القوات الأجنبية عدوان مسلح على سيادة الوطن وحريته يترتب عليه آثاره القانونية والعملية.

ويؤكد على ذلك بقوله: ولا يمكن أن يتصور مصرى أن بلده يهاجم من عدو أجنبى كائنا ما كان، ثم يسكت على هذا العدوان أو يبخل بدمه وروحه فدية لإنقاذ الوطن العزيز، وإن الإسلام ليفرض على كل مسلم أن يجاهد المعتدين الطامعين فى بلده باليد والسيف والمال واللسان، ومن قصر فى ذلك فهو آثم فارّ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا.

فعلى حكومة مصر ألا تستضعف شعبها وألا تتجاهل أو تجهل ما فى مصر من خير وحيوية وأن تعتمد على نفسها وتثق بالله.."

مجلة النذير، العدد “11”، السنة الثانية، 11 ربيع الأول سنة 1358 -2 مايو سنة 1939، ص”3-5”.

ويضيف: لا ينفع الحكومة المصريةولا يجدى فى الحصول على الحق المهضوم مع هذه المناورات إلا موقف الحزم الكامل، ولقد كان علينا أن نأخذ به الأمر من أول يوم منذ أعلنت الهدنة فى يونيو سنة 1945م، كان علينا منذ هذا التاريخ أن نطلب إلى الحكومة وإلى غيرها من الحكومات الأجنبية سحب قواتها، والجلاء عن أرض الوطن ومائه وهوائه ثم نعلنها ببطلان معاهدة 1936م..

جريدة الإخوان المسلمين الأربعينيات، العدد “89”، السنة الرابعة، 7 ربيع أول 1365/ 9 فبراير 1946، ص”3- 5”

ويؤكد المعنى بقوله: والاستقلال والحرية والحقوق الوطنية لا تنال على كل حال بالجدل والنقاش والرجاء ولكنها تنال دائما بالعمل والكفاح والجهاد والفداء..”.

المرجع السابق: العدد “319”، السنة الأولى، 27 جمادى الآخرة 1366/ 18 مايو 1947، ص”1”.

ثم يخاطب المصريين ليستشعروا ذلك المعنى ولا ينصرفوا عما سواه من حزبية او تناحر فيقول:

أيها المصريون: نحن لا نقول لكم قصروا فى حقوق أوطانكم، ولا ندعوكم إلى أن تتركوا مصر وتعملوا لطرابلس أو لفلسطين، فإنه إذا كان الإسلام يفرض عليك -وأنت مصرى- أن تعمل لفلسطين ولطرابلس وللمغرب لأنها من أرض الإسلام، فإنه يفرض عليك ذلك لمصر؛ لأنها من أرض الإسلام؛ ولأن لها مرتبة الصدارة فى أرض الإسلام؛ ولأنها أقرب الميادين إليك، فمن واجبك أن تقوم بحقها وأن تعمل جاهدا لتحريرها وخيرها.

ولكنا نقول لك: إن من واجبك -مع هذا- أن تعرف حدود وطنك العام، وألا تهمل فى حق جزء منه يهدد بالضياع والإفناء وتذكر دائما واعمل دائما للوطن الإسلامي الفسيح الأكناف..”.

مجلة النذير، العدد “23”، السنة الأولى، 8 رمضان 1357ه- 31 أكتوبر 1938م، ص”3-4”.

 

الوطن الحر الكريم

في كل وطن يحرص أبناءه على أن يحيا كريما وسط الأوطان لا يسيطر عليه مستعمر عسكري ولا اقتصادي ولا ثقافي، فكرامة الوطن في سيادته واستقلاله وتقدمه، ولهذا حرص الإمام البنا على تاكيد هذا المعنى من انه لابد من أن يحيا الوطن كريما بتقدمه الاقتصادي واستغناءه عن الغرب وأعوانه، فالأمة التي تملك قوت يومها تملك قرارها، فيقول تحت عنوان “قضيتنا الوطنية وكيف تحل فى ضوء التوجيه الإسلامي:

“ حقوقنا الوطنية معروفة، أعلنتها الأمة بكل وضوح وجلاء على لسان أحزابها وهيئاتها وجماعاتها وأفرادها فى كل المناسبات، وهى: تحقيق وحدة وادى النيل جنوبه وشماله، وجلاء القوات الأجنبية عنه جميعا، لتتم بذلك حقيقة حريته واستقلاله.

وحول الاقتصاد الحر وتقدم الوطن يحث الإمام البنا الشعب على الأخذ بهذا المعيار حتى يستطيع الشعب التحرر من ذل العبودية، فيقول:

والعناية بالمشروعات الوطنية الكبرى المهملة التى طال عليها الأمد، وقعد بها التراخى والكسل، أو أحبطتها الخصومة الحزبية أو طمرتها المنافع الشخصية، أو قضت عليها الألاعيب السياسية والرشوة الحرام، كل هذه يجب أن تتوجه إليها الهمم من جديد: “إن الله يحب من أحدكم إذا عملَ عملاً أن يتقنه”..

جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد “475”، السنة الثانية، 6 محرم 1367ه- 19 نوفمبر 1947م، ص”1، 5”.

ولن ينهض الاقتصاد بدون النهوض بالتعليم، وهذا ما ذكره الإمام البنا بقوله:

أن تجدد مناهج التعليم بحيث تقوم على التربية الإسلامية والوطنية، ويعنى بها باللغة العربية والتاريخ القومى عناية فائقة، وتؤدى إلى طبع نفوس المتعلمين بتعاليم الإسلام، وتثقيف عقولهم فى أحكامه وحكمه.

ويضيف: إن الإخوان المسلمين يرون أن أمر التعليم فى مصر يحتاج إلى خطوة جريئة، وإلى سياسة تجديدية تتناول كل أنواعه ومشاكله، وأمهات نواحى الإصلاح فى ذلك أن تكون الروح الموجهة ترمى إلى صبغ المدرسة بالصبغة الإسلامية، لا إلى إقصائها عن هذه الصبغة،

ثم إلى توحيد هاتين السلسلتين فى سلسلة واحدة لحساب الفكرة الإسلامية لا على حسابها، ثم ضم أنواعه المتشابهة بعضها إلى بعض حتى تقرب الثقافات، وتوحد النفقات، ويقضى على الفوارق فى الأدوار الواحدة من التعليم، ولابد من تشجيع اللغة العربية، والتاريخ الإسلامي، والتربية الوطنية فى كل مراحل التعليم، والعناية التامة بالخلق والقدوة الحسنة، والنواحي العملية الاستقلالية..".

جريدة الإخوان المسلمين نصف الشهرية، العدد “9”، السنة الأولى، 18 ذو الحجة 1361ه- 26 ديسمبر 1942م، ص”3-4”.

ويقول في رسالة نحو النور: يجب العناية بالتاريخ الإسلامي والتاريخ الوطني والتربية الوطنية وتاريخ حضارة الإسلام، وأيضا تشجيع المشروعات الاقتصادية والإكثار منها، وتشغيل العاطلين من المواطنين فيها، واستخلاص ما فى أيدي الأجانب منها للناحية الوطنية البحتة..

موقف الإمام البنا من الوطنية

يُرجع الإمام البنا الاهتمام بالوطنية – كانتماء سياسي – إلي شعور الشعوب الشرقية بإساءة الغرب إليها إساءة نالت من عزتها واستقلالها، وإلي تألمها من الاحتلال الغربي الذي يفرض عليها فرضًا، فانتشرت فكرة القومية والوطنية كدافع، ورد فعل بهدف التخلص من الغير الغربي

ويري أن هذا حسن وجميل، فيقول: “افتتن الناس بدعوة الوطنية تارة والقومية تارة أخرى وبخاصة في الشرق حيث تشعر الشعوب الشرقية بإساءة الغرب إليها إساءة نالت من عزتها وكرامتها واستقلالها وأخذت من مالها ومن دمها، وحيث تتألم هذه الشعوب من هذا النير الغربي الذي فرض عليها فرضًا، فهي تحاول الخلاص منه بكل ما في وسعها من قوة ومنعة وجهاد وجلاء، فانطلقت ألسن الزعماء وسالت أنهار الصحف، وكتب الكاتبون وخطب الخطباء وهتف الهاتفون باسم الوطنية وجلال القومية”.

فالأستاذ البنا ينظر إلي الوطنية – عامة- في مصر والبلدان المستعمرة – علي أنها سلاح مقاومة ضد الغزو الغربي – والتخلف الذي كان قائمًا.

إلا أن الوطنية لها مفهومها ومضمونها الخاص عند الإمام البنا فقد انتقد رأيًا لبعض المؤمنين بالوطنية كما هي عند الغربيين، يزعم أن الإسلام في ناحية وهذه الفكرة في ناحية أخري، ويزعم أن إدخال الإسلام في هذا الأمر إضعاف وتفرقة للوحدة الوطنية،

ومن ثم ناقش الإمام البنا هذا المفهوم محددًا موقف الإخوان منه،

وقد بين الإمام البنا منهج تناوله له بأنه يزنها بميزان دعوته "الإسلام" فما وافقها فمرحبًا به وما خالفها تبرأ منه.

فالعبرة كما يري بالمضمون وليست بالأسماء.

معني الوطنية عند الإمام البنا

أ‌- يحلل مرشد الإخوان الأول " الإمام البنا " الوطنية إلي عدة معان، ويبين موقفهم من كل معني:

1- فإن كان دعاة الوطنية يريدون بها حب مصر، والحنين إليها، والانعطاف نحوها، فهذا أمر فطري من جهة، ومأمور به في الإسلام من جهة أخرى، أي أن رابطة الوطنية بهذا المعني فطرة يقرها الإسلام،

“إن كان دعاة الوطنية يريدون بها حب هذه الأرض وألفتها والحنين إليها والانعطاف نحوها، فذلك أمر مركوز في فطر النفوس من جهة، ومأمور به في الإسلام من جهة أخرى، وإن بلالا الذي ضحى بكل شيء في سبيل عقيدته ودينه، هو بلال الذي كان يهتف في دار الهجرة بالحنين إلي مكة في أبيات تسيل رقة وتقطر حلاوة:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي أذخر وجليل

وهل أردن يومًا مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل

ولقد سمع رسول الله صلي الله عليه وسلم – وصف مكة من “أصيل” فجرى دمعه حنينا إليها وقال: يا أصيل دع القلوب تقر.

2- وإن كان يراد بها وجوب العمل بكل جهد لتحرير البلد من الغاصبين، وتوفير استغلاله له، وغرس مبادئ العزة والحرية في نفوس أبنائه، فنحن معهم في ذلك أيضًا، والإسلام يشدد في ذلك أبلغ التشديد، يقول:

“وإن كانوا يريدون أن من واجب العمل بكل جهد في تحرير البلد من الغاصبين وتوفير استقلاله له وغرس مبادئ العزة والحرية في نفوس أبنائه، فنحن معهم في ذلك أيضًا، وقد شدد الإسلام في ذلك أبلغ التشديد، فقال تبارك وتعالي: "ولِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ ولَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ" ويقول: "ولَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً".

3- وإن أريد بالوطنية تقوية الرابطة بين أفراد القطر الواحد، وإرشادهم إلي طريق استخدام هذه التقوية في مصالحهم، فيوافق الإمام البنا علي ذلك، بأن الإسلام يراه فريضة لازمة، ويقول:

"وإن كانوا يريدون بالوطنية تقوية الرابطة بين أفراد القطر الواحد وإرشادهم إلي طريق استخدام هذه التقوية في مصالحهم، فذلك نوافقهم فيه أيضا، ويراه الإسلام فريضة لازمة، فيقول القرآن الكريم “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ودُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ومَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ".

فالأستاذ البنا – إذن- يرى أن الوطنية بمعني حب البلد والحنين إليها، والعمل علي تحريره وتقويته، وتقوية الرابطة بين أفراده بما يعود بالخير علي فكرة صائبة يقرها الإسلام، ومن ثم فهو يؤمن بها، ويعمل لها.

ومن شأن هذا الفهم أن يربي في من يقبله شعور الانتماء الوطني الصحيح والإحساس بالمسؤولية تجاه الوطن والرغبة القوية في العمل والتحرر من المحتل.

فالعلاقة بين الوطنية والإسلام – بهذا المعني السابق – لا تناقض بينها.

4- ولكن الإمام البنا يرفض الوطنية إذا أريد بها تقسيم الأمة طوائف متناحرة، متشيعة لمناهج وضيعة، تفسر وفق مصالح شخصية تستغل من قبل العدو لمنع اتصال بعضهم ببعض وتعاونهم،

ويرى أن هذه وطنية لا خير فيها، وهي زائفة، أي أن الإخوان يرفضون الوطنية المُجَزِّئة وذات المضمون المنافي للإسلام، والتي هي بالتالي تعمل لصالح المستعمر، يقول:

"وإن كانوا يريدون بالوطنية تقسيم الأمة إلى طوائف تتناحر وتتضاغن وتتراشق بالسباب وتترامى بالتهم، ويكيد بعضها لبعض، وتتشيع لمناهج وضيعة أملتها الأهواء وشكلتها الغايات والأغراض وفسرتها الأفهام وفق المصالح الشخصية، والعدو يستغل كل ذلك لمصلحته ويزيد وقود هذه النار اشتعالا يفرقهم فى الحق ويجمعهم على الباطل، ويحرم عليهم اتصال بعضهم ببعض ويحل لهم هذه الصلة به والالتفاف حوله فلا يقصدون إلا داره، ولا يجتمعون إلا زواره، فتلك وطنية زائفة لا خير فيها لدعاتها ولا للناس،

فها أنت ذا قد رأيت أننا من دعاة الوطنية، بل مع غلاتهم فى كل معانيها الصالحة التى تعود بالخير على البلاد والعباد، وقد رأيت مع هذا أن تلك الدعوة الوطنية الطويلة العريضة لم تخرج عن أنها جزء من تعاليم الإسلام".

ب‌- والذي يبين فهم الإمام البنا للوطنية هو بيانه لعلاقة الوطنية بالعقيدة، ولحدود الوطن، وبناء على تلك العلاقة:

فالإمام البنا يذكر أن الإخوان المسلمين أشد الناس إخلاصًا لأوطانهم، وتفانيًا في خدمتها، واحترامًا لكل من يعمل لها مخلصًا، إلا أنه يقرر أن هناك فروقًا بين الوطنية كما يفهمونها، وبين دعاة الوطنية المجردة.

1- إن أساس وطنية المسلم العقيدة الإسلامية، والإسلام قد جعل الشعور الوطني بالعقيدة لا بالعصبية الجنسية، وقد حدد هدفه بالعمل للخير من أجل البشر، فالاعتبار هنا للعقيدة، بينما هي عند غيرهم ترتبط بالحدود الجغرافية

فوطن المسلم هي كل أرض فيها مسلمون، يقول الإمام البنا:” أما وجه الخلاف بيننا وبينهم فهو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله وطنى عندنا له حرمته وقداسته وحبه والإخلاص له والجهاد فى سبيل خيره، وكل المسلمين فى هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا نهتم لهم ونشعر بشعورهم ونحس بإحساسهم.

ودعاة الوطنية فقط ليسوا كذلك، فلا يعنيهم إلا أمر تلك البقعة المحدودة الضيقة من رقعة الأرض، ويظهر ذلك الفارق العملى فيما إذا أرادت أمة من الأمم أن تقوى نفسها على حساب غيرها، فنحن لا نرضى ذلك على حساب أى قطر إسلامى وإنما نطلب القوة لنا جميعًا، ودعاة الوطنية المجردون لا يرون فى ذلك بأسًا، ومن هنا تتفكك الروابط وتضعف القوى ويضرب العدو بعضهم ببعض" .

2- وتأسيسًا علي هذا الفرق، فإن حدود الوطن التي تلزم التضحية في سبيل حريته وخيره، لا تقتصر علي حدود قطعة الأرض التي يولد عليها المرء بل إن الوطن يشمل:

  • القطر الخاص أولا.

  • ثم يمتد إلي الأقطار الإسلامية الأخرى، والأقطار التي فتحها المسلمون الأولون ثم أخضعت لغير المسلمين.

  • ثم يمتد وطن المسلم ليشمل الدنيا جميعًا، ومن ثم يوفق الإسلام – كما يري الإمام البنا – بين شعور الوطنية الخاصة وشعور الوطنية العامة.

  • ويبين الإمام البنا خطورة ذلك فيما أرادت الأمة أن تقوي نفسها علي حساب غيرها، فيقرر لا يرفضون ذلك علي حساب أي قطر إسلامي وإنما نطلب القوة لنا جميعًا،

أما دعاة الوطنية المجردة فلا يرون بذلك بأسًا مما يؤدي إلي تفكك الروابط، يقول الإمام البنا:” يسمو وطن المسلم بعد ذلك كله حتى يشمل الدنيا جميعا؛ ألست تسمع قول الله تبارك وتعالى “وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ”

وبذلك يكون الإسلام قد وفق بين شعور الوطنية الخاصة وشعور الوطنية العامة، بما فيه الخير كل الخير للإنسانية جميعا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا”.

ثانيًا: الوطنية المصرية والموقف منها

أ‌- في رسالة "نحو النور" يذكر الإمام البنا أن الأمة في حالة نهوضها – وهذا شأن مصر كما قرر – تحتاج إلي الاعتزاز بقوميتها، وطبع ذلك في نفوس الأبناء ليعطوا لخير الوطن وإعزازه، وأن هذا الشعور قد كفله الإسلام الذي جعل الشعور الوطني مرتبط بالعقيدة،

يقول: "ليس فى الدنيا نظام يمد الأمة الناهضة بما تحتاج إليه من نظم وقواعد وعواطف ومشاعر كما يمد الإسلام بذلك كله أممه الناهضة"،

ثم يقول: "وتحتاج الأمم الناهضة إلى الاعتزاز بقوميتها كأمة فاضلة مجيدة لها مزاياها وتاريخها، حتى تنطبع الصورة فى نفوس الأبناء، فيفدون ذلك المجد والشرف بدمائهم وأرواحهم، ويعملون لخير هذا الوطن وإعزازه وإسعاده”.

وفي رسالة "إلي الشباب" ذكر أنهم يعملون لوطن مثل مصر يجاهدون في سبيله ويفنون في هذا الجهاد، لأن مصر من أرض الإسلام وزعيمة أممه، إلا أنهم لا يقفون بهذا الشعور عند حدودها، بل يشركون معها كل وطن إسلامي،

ويذكر أنه بلغ من وطنية الإخوان اعتقادهم أن التفريط في أي شبر أرض يقطنه مسلم جريمة لا تغتفر حتى يعيدوه أو يهلكوا دون إعادته ولا نجاة لهم من الله إلا بهذا،

يقول: "الفارق بين المسلمين وبين غيرهم من دعاة الوطنية المجردة أن أساس وطنية المسلمين العقيدة الإسلامية، فهم يعملون لوطن مثل مصر ويجاهدون فى سبيله ويفنون فى هذا الجهاد لأن مصر من أرض الإسلام وزعيمة أممه، كما أنهم لا يقفون بهذا الشعور عند حدودها بل يشركون معها فيه كل أرض إسلامية وكل وطن إسلامى، على حين يقف كل وطنى مجرد عند حدود أمته ولا يشعر بفرضية العمل للوطن إلا عن طريق التقليد أو الظهور أو المباهاة أو المنافع، لا عن طريق الفريضة المنزلة من الله على عباده،

وحسبك من وطنية الإخوان المسلمين أنهم يعتقدون عقيدة جازمة لازمة أن التفريط فى أى شبر أرض يقطنه مسلم جريمة لا تغتفر حتى يعيدوه، أو يهلكوا دون إعادته، ولا نجاة لهم من الله إلا بهذا”.

وفي رسالة "دعوتنا في طور جديد": يذكر أن الوطنية المصرية لها مكانتها ومنزلتها وحقها في النضال – في دعوتهم، ويقول: “إننا مصريون بهذه البقعة الكريمة من الأرض التي نبتنا فيها ونشأنا عليها، ومصر بلد مؤمن تتلقى الإسلام تلقيًا كريمًا وقد انتهت إليه حضانة الفكرة الإسلامية والقيام عليها، فكيف لا نعمل لمصر ولخير مصر؟!

وكيف لا ندفع عن مصر بكل ما نستطيع

وكيف يقال إن الإيمان بالمصرية لا يتفق مع ما يجب أن يدعو به رجل ينادي بالإسلام ويهتف بالإسلام؟!

إننا نعتز بأننا مخلصون لهذا الوطن الحبيب، عاملون له مجاهدون في سبيل خيره، وسنظل كذلك ماحيينا، معتقدين أن هذه هي الحلقة الأولي في سلسلة النهضة المنشودة، وأنها جزء من الوطن العربي العام، وأننا حين نعمل لمصر نعمل للعروبة وللشرق وللإسلام.

ب‌- والبين مما سبق أن الدافع العقيدي وراء هذه الوطنية، وهو ما قرره في رسالة “المؤتمر الخامس” حيث رد علي من غمز الإخوان في وطنيتهم لتمسكهم بالفكرة الإسلامية، فيذكر الإمام البنا “أن الإسلام فرضها فريضة لازمة لا مناص منها أن يعمل كل إنسان لخير بلده وأن يتفانى في خدمته..،

فكل مسلم مفروض عليه أن يسد الثغرة التي هو عليها وأن يخدم الوطن الذي نشأ فيه، ومن هنا كان المسلم أعمق الناس وطنية وأعظمهم نفعًا لمواطنيه لأن ذلك فرض إلهي.

فالإخوان أشد الناس حرصًا علي خير وطنهم، وتفانيًا في خدمة قومهم..

فالإخوان يحبون وطنهم ويحرصون علي وحدته القومية بهذا الاعتبار، ولا يجدون غضاضة علي أي إنسان أن يخلص لبلده وأن يفني في سبيل قومه وأن يتمني لوطنه كل عز ومجد وفخار..

الإخوان المسلمون يحترمون قوميتهم الخاصة باعتبارها الأساس الأول للنهوض المنشود، ولا يرون بأسًا بأن يعمل كل إنسان لوطنه وأن يقدمه في الوطن علي سواه”.

ج- وبهذا يتبين أن الإخوان يقبلون الوطنية المصرية علي أنها ذات مضمون إسلامي، وعلي أنها حلقة في سلسلة النهضة التي ينشدونها، ويرفضون الوطنية علي أنها إحياء للفرعونية وصبغ الأمة بها أوعلي أنها محدودة بحدود الوطن المصري،

فالمصرية أو القومية لها فى دعوتنا مكانها ومنزلتها وحقها فى الكفاح والنضال.. فكيف لا نعمل لمصر ولخير مصر؟ وكيف لا ندفع عن مصر بكل ما نستطيع..

إننا نعتز بأننا مخلصون لهذا الوطن الحبيب عاملون له مجاهدون فى سبيل خيره، وسنظل كذلك ما حيينا معتقدين أن هذه هى الحلقة الأولى فى سلسلة النهضة المنشودة، وأنها جزء من الوطن العربى العام، وأننا حين نعمل لمصر نعمل للعروبة والشرق والإسلام..

وليس يضيرنا فى هذا كله أن نعنى بتاريخ مصر القديم، فنحن نرحب بمصر القديمة كتاريخ فيه مجد وفيه علم ومعرفة، ونحارب هذه النظرية بكل قوانا كمنهاج عمل يراد صبغ مصر به ودعوتها إليه بعد أن هداها الله بتعاليم الإسلام وشرح له صدرها وأنار به بصيرتها وزادها به شرفًا ومجدًا فوق مجدها”.

وهذا الموقف الاعتقادي عند الإخوان يربي في الفرد شعور الانتماء إلي مصر، والإحساس بالمسئولية تجاهها، ويبعث علي العمل علي تحريرها وترقيها، وفي نفس الوقت يوسع أفق الوطن باعتبار أن مصر حلقة أولي لحلقات النهضة.

ومن ثم فلا تناقض بين هذا الموقف والعروبة.

ثالثا: الموقف من الوحدة الوطنية "الأقليات"

تقدم أن الوطنية عند الإخوان تنطلق من العقيدة الإسلامية، وذات مضمون إسلامي، مما قد يؤدي إلي تساؤل عن الموقف لغير المسلمين في الوطن المصري

فهل لهم حقوق المواطن وواجباته كاملا، أم أن القول بالمضمون الإسلامي للوطنية يؤدي إلي انحصار بعض تلك الحقوق عن غير المسلمين؟

ويذكر المستشار طارق البشري أن هذه النقطة العملية هي أدق ما يواجه فريقي الجامعتين الدينية والقومية، ولعله فيها تكمن بذرة الخلاف الأساسي بينهما.

الوطن للجميع

لم يكن الوطن في يوم من الأيام حكرا على احد، بل هو لكل من ولد على أرضه، بل لكل من وطأه يريد له الخير.

فوطننا ليس مقصورا على مسلمين دون غيرهم، أو على أقباط دون غيرهم، لكنه وسع ليشمل كل هؤلاء فكل واحد على أرضه عليه واجبات نحو هذا الوطن وله حقوق.

فالإسلام حث على الوحدة بين شركاء الوطن فقال تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ” الممتحنة: 8.

ولذا فكان الإخوان المسلمين أحرص الناس على هذه الوحدة، وعلى التعاون بين شركاء الوطن؛ حتى أن الإمام البنا اختار بعض الأقباط في اللجنة السياسية للإخوان، بل كان مندوب الإمام البنا في انتخابات 1945م في سانت كاترين هو القبطي خريستو، بل أن الإخوان دعموا المرشح القبطي صاحب جريدة الشفق في الانتخابات.

ويتضح من خلال استقراء لأفكار الإمام البنا في هذه النقطة أنها كانت تأخذ حيزًا غير قليل من بياناته وتوعيته مما يشير إلي أنها كانت تمثل اهتماما له، والمنهج السائد في تناوله جميعًا هو بيان موقف الإسلام – عقديًا وتاريخيًا- من غير المسلمين في المجتمع الإسلامي.

ففي أكثر من رسالة وخطاب يتناول الإمام البنا الموقف من الأقباط، فيرد علي من يقول إن فهم الوطنية بهذا المعني السابق يمزق وحدة الأمة لأنها تأتلف من عناصر دينية مختلفة، بأن الإسلام دين الوحدة ودين المساواة

وأنه كفل هذه الروابط بين الجميع ماداموا متعاونين علي الخير: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ” فمن أين يأتي التفريق إذن؟.

وفي رسالة "نحو النور": يذكر أن الإسلام يحمي الأقليات عن طريق:

أنه قدس الوحدة الإنسانية العامة وقدس الوحدة الدينية العامة، بأن فرض علي المؤمنين به الإيمان بكل الرسالات السابقة.

ثم قدس الوحدة الوطنية الخاصة من غير تعَدِّ ولا كبر،

ويري أن هذا "مزاج الإسلام المعتدل" لا يكون سببًا في تمزيق وحدة متصلة بل يكسب هذه الوحدة صفة القداسة الدينية بعد أن كانت تستمد قوتها من نص مدني فقط،

ويذكر أن الإسلام حدد بدقة من يحق للمسلمين مقاطعتهم وعدم الاتصال بهم وهم الذين يقاتلونهم في الدين ويخرجونهم من ديارهم ويظاهرون علي إخراجهم،

يقول: "فإن الإسلام الذى وضعه الحكيم الخبير الذى يعلم ماضى الأمم وحاضرها ومستقبلها قد احتاط لتلك العقبة وذللها من قبل، فلم يصدر دستوره المقدس الحكيم إلا وقد اشتمل على النص الصريح الواضح الذى لا يحتمل لبسًا ولا غموضًا فى حماية الأقليات، وهل يريد الناس أصرح من هذا النص: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ”، فهذا النص لم يشتمل على الحماية فقط، بل أوصى بالبر والإحسان إليهم”.

هذا الإسلام الذى بنى على هذا المزاج المعتدل والإنصاف البالغ لا يمكن أن يكون أتباعه سببًا فى تمزيق وحدة متصلة، بل بالعكس إنه أكسب هذه الوحدة صفة القداسة الدينية بعد أن كانت تستمد قوتها من نص مدنى فقط".

ويؤكد الإمام البنا نفس هذه الفكرة في رسالته للشباب، فيقول:

"فيخطئ من يظن أن الإخوان دعاة تفريق عنصري بين طبقات الأمة”

ويستدل بأن "الإسلام عني أدق عناية باحترام الرابطة الإنسانية العامة بين بني الإنسان، وأوصي بالبر والإحسان بين المواطنين وإن اختلفت عقائدهم، وبإنصاف الذميين وحسن معاملتهم “لهم مالنا وعليهم ما علينا “ فلا ندعو إلي فرقة عنصرية ولا إلي عصبية طائفية

ثم يؤكد الإمام البنا المعني السابق للوطنية فيقرر "ولكننا إلي جانب هذا لا نشتري هذه الوحدة بإيماننا ولا نساوم في سبيلها على عقيدتنا، ونهدر من أجلها مصالح المسلمين وإنما نشتريها بالحق والعدالة والإنصاف وكفى".

وفي رسالة "مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي": يبين الإمام البنا موقف الأقلية غير المسلمة ذاتها من الإسلام وبالتالي من دعوة الإخوان،

فالأقلية – كما يذكر الإمام البنا – من أبناء هذا الوطن تعلم تمام العلم كيف تجد الطمأنينة والأمن والعدالة والمساواة التامة – في كل تعاليم الإسلام وأحكامه،

"وهذا التاريخ الطويل للصلة الطيبة الكريمة بين أبناء هذا الوطن جميعًا – مسلمين وغير مسلمين - يكفينا مؤنة الإفاضة والإسراف، فإن من الجميل حقًا أن نسجل لهؤلاء المواطنين الكرام أنهم يقدرون هذه المعاني في كل المناسبات، ويعتبرون الإسلام معني من معاني قوميتهم، وإن لم تكن أحكامه وتعاليمه من عقيدتهم".

ويمكن إجمال نظرة الإمام البنا والإخوان للأقباط في عاملين أساسيين هما:

1. جانب العقائد: وفيه التزام الإخوان بما جاء في القرآن الكريم والسنة من أن أهل الكتاب أرسل الله لهم سيدنا عيسى – عليه السلام – نبيًا ورسولا وأنزل معه الإنجيل، وهم أقرب للمسلمين من اليهود

فقد قال الله فيهم: "لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ والَّذِينَ أَشْرَكُوا ولَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ورُهْبَانًا وأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ"سورة المائدة - الآية 82

وهذا هو المفهوم العام والذي تربى عليه الإخوان وهو موجود في مختلف أدبياتهم.

2. جانب المعاملات: وفيه اعتبر الإخوان أن الأقباط لهم حقوق المواطنة كافة؛ حيث إنهم جزء من نسيج الوطن، فهم شركاء في هذا الوطن، ولذلك جاءت علاقة الإخوان بالأقباط عمومًا علاقة طيبة كباقي فئات المجتمع، ولم يعكرها إلا تدخل بعض المغرضين الذين يكرهون الخير للبلاد، أو متعصبون ضد كل ما هو إسلامي يحكمهم في ذلك الهوى والحقد الشخصي، أو فئة فهمت الإسلام فهمًا خاطئًا.

لم تقتصر علاقة الإمام البنا من خلال ما يكتبه عنهم في مقالاته أو رسائله، بل وصل الأمر لتبادل الرسائل فيما بينهم كشركاء وطن واحد، ففي رسالةٍ أخرى أرسلها إلى غبطة البطريرك التي جاء فيها:

“حضرة صاحب الغبطة الأنبا يوساب بطريرك الأقباط الأرثوذكس

تحيةً مباركة طيبة، وبعد..

فأكتب إلى غبطتكم وأنا معتكف لمرض ألمَّ بي، أذهلني ما يكتب وما يقال اليوم حول وحدة عنصري الأمة المصرية، تلك الوحدة التي فرضتها الأديان السماوية وقدستها العاطفة الوطنية وخلدتها المصلحة القومية ولن تستطيع أن تمتد إليها يد أو لسان،

وكما- يا صاحب الغبطة- أن الإسلام فُرِضَ على المؤمنين به أن يؤمنوا بكل نبي سبق، وبكل كتاب نزل، وبكل شريعة مضت، معلنًا أن بعضها يكمل بعضًا، وأنها جميعًا دين الله وشرعته، وأن من واجب المؤمنين أن يتوحدوا عليها وألا يتفرقوا فيها ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ “الشورى: من الآية 13”، كما أنه دعا المسلمين وحثهم أن يبروا مواطنيهم، وأن يقسطوا إليهم، وأن يكون شعار التعامل بين الجميع التعاون والإحسان ﴿لا يَنْهَاكُمْ اللهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ “الممتحنة: 8”.

وما جاء الإنجيل إلا لتقرير روح المحبة والسلام والتعاطف بين الناس، حتى إنه ليدعوهم إلى أن يحبوا أعداءهم، ويباركوا لاعنيهم، ويصلوا من أجل الذين يبغضونهم، وبذلك وحده تكون على الأرض المسرة وفي الناس السلام.

هذه الحقائق نؤمن بها ونعمل على أساسها، ويدعو الإخوان المسلمون إليها، وقد بعث مكتب الإرشاد العام إلى شُعَبه، خلال هذا الأسبوع، بنشرةٍ يذكر فيها الواجب المقدس الذي حتم على كل مسلم أن يعمل ما وسعه العمل على تدعيم هذه الوحدة القومية وتوثيق هذه الرابطة الوطنية.

وإني لشديد الأسف لوقوع مثل هذه الحوادث التي لا يمكن مطلقًا أن تقع من الإخوان المسلمين، أو من أي مسلم أو مسيحي متدين عاقل، غيور على دينه ووطنه وقومه، والتي هي- ولا شك- من تدبير ذوي الأغراض السيئة، الذين يحاولون أن يصطادوا في الماء العكر، وأن يسيئوا إلى قضية الوطن في هذه الساعات الحرجة، والظروف الدقيقة من تاريخه.

ومن حسن الحظ أنهم لا يوفقون إلى شيء- ولن يوفقوا بإذن الله- ولم يعد أمر هذه الحوادث الصبيانية التافهة التي نأسف لها جميعًا، والتي أرجو أن نعمل جميعًا متعاونين على عدم تكراراها؛ صيانةً لهذه الوحدة الخالدة بين عنصرَي الأمة وبهذا التعاون المشترك يرد كيد الكائدين، وتعلو كلمة الوطنيين العاملين المخلصين.

وفَّق الله الجميع لخير ما يحب ويرضى، وهو نعم المولى ونعم النصير.

وتفضلوا يا صاحب الغبطة بتقبل تحياتي واحترامي

القاهرة مستشفى الروضة 17 جمادى الأولى 1366هـ، 9 أبريل 1947م

ولقد رد غبطة البطريرك على رسالة فضيلة المرشد العام قال فيها:

“حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين..

نهدي فضيلتكم أزكى تحية، وبعد..

فقد تلقينا كتابكم، ومنه علمنا أنكم معتكفون في المستشفى لمرضٍ ألمَّ بكم، شفاكم الله وأسبغ عليكم ثوب العافية.

ولقد قرأنا الكتاب فصادف ارتياحنا ما جاء فيه عن وحدة عنصرَي الأمة، ولعل من الحق أن يقال إن الأمة عنصر واحد؛ لأن افتراق الدين لا يصح أن يطغى على وحدة الدم واتفاق الصفات الخلقية والاشتراك في العادات والأفكار والمصالح الدنيوية،

وقد صدقتم في قولكم: "إن هذه الوحدة فرضتها الأديان وقدستها العاطفة الوطنية وخلدتها المصلحة القومية، وما عقدته يد الله لا تحل من عروته أيدي الناس"؛ فإن ذلك من الحقائق التي يدركها الأقباط حقَّ إدراك ويحرصون عليها ويذودون عن هذه الوحدة بأعز ما يمتلكون؛ لأنهم يذودون بذلك عن شرف وطنهم ومجد أمتهم.

وليس للأقباط من بغية إلا أن يعيشوا مع مواطنيهم على أتم ما يكون من الصفاء والوفاء من جانبهم عملاً بوصايا إنجيلهم وأوامر كتابهم، وإذا كانت لهم أمنية أخرى فهي أن تكون العدالة والمساواة واحترام الحريات الدستورية أساسًا لكل معاملة لتتم السعادة بذلك لجميع أبناء الأمة ويبسط الأمن والسلام رواقهما على البلاد.

أما ما اقتبسوه من الآيات القرآنية والحديث الشريف فمن شأنه حقًّا أن ينير الأذهان ويبث مكارم الأخلاق إذا عمَّت معرفته بين جميع الأوساط، ولا سيما التي تحتاج إلى مزيدٍ من التأدب بهذا الأدب الديني الرفيع.

وإذا سار على هديه الحكام والمحكومون، وبذلك تتوثق عرى علاقات الإخاء والمودة بين المسلمين والأقباط، وبذلك فقد أحسنتم صنعًا بالنشرة التي قلتم إن مكتب الإرشاد العام بعث بها إلى فروعه، وبيَّن فيها ما على كل أخ مسلم من واجب مقدس في أن يعمل جهد طاقته لدعم هذه الوحدة القومية وتعزيز أواصر الرابطة الوطنية؛ ففي ذلك عنوان على رقي الأمة، ودليلٌ على نضج تربيتها السياسية.

ولا يسعنا إلا أن نتضرَّع إلى المولى جلت قدرته أن يرعى الكنانة بعين عنايته ويجنِّبها مساوئ الخصومات الداخلية الوخيمة العواقب، ويديم على سكان الوادي نعمة المحبة والاتحاد في ظل رعاية المصري الأول جلالة الفاروق الملك العادل أطال الله عمره وأعزَّ به أمته وبوأها مكانًا عاليًا بين الأمم في عهد ملكه المبارك.

واقبلوا سلامنا وأطيب تمنياتنا

بابا بطريرك الكرازة المرقسية

يوساب الثاني

ولقد تبادل الإخوان والأقباط التهانيَ في الأعياد؛ فقد أرسل فضيلة المرشد العام إلى حبيب المصري باشا رئيس جمعية التوفيق القبطية البرقية التالية:

"تلقيت بيد الشكر دعوتكم الكريمة لحضور احتفال النيروز المصري اليوم "الأربعاء"، وكان يسعدني أن أحضر بنفسي لولا أني مريض منذ يومين، وقد أنبت عني الأستاذ عبده قاسم سكرتير عام الإخوان المسلمين.. مع أطيب التمنيات”.

فتلقى المرشد العام ردًّا من حبيب المصري جاء فيه:

"أشكر فضيلتكم كل الشكر لبرقيتكم الرقيقة وانتدابكم سكرتير الإخوان لحضور حفل الجمعية داعيًا لكم بالصحة الموفورة".

وفي حديثٍ للأستاذ البنا مع مستر سبنسر المراسل الحربي الأمريكي وجَّه إليه المراسل سؤالاً حول وضع الأقليات غير المسلمة في بلد إسلامي، وهل يحاربون أو يلزمون بدفع الجزية،

فأوضح له الأستاذ البنا أن نظرة الإسلام لهذا الموضوع نظرة التسامح الكامل والوحدة؛ فقد قال الله تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمْ اللهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ “الممتحنة: من الآية 8”،

هذا إلى جانب الروح العام في الإسلام لتقديس الأديان جميعًا يجعلنا لا نشعر بوجود مسلمٍ وغير مسلم، بل الجميع يتعاونون على خير الوطن، وأن من يحاول فعل غير ما جاء من الإسلام حول علاقة المسلم بالقبطي؛ فهم ليسوا من الإخوان بأي حال من الأحوال.

ولقد أزاح الأستاذ لويس فانوس النائب القبطي بمجلس الشيوخ حقيقة علاقة الأقباط بالإخوان، وطلب من الحكومة التعاون مع جمعية الإخوان المسلمين؛ إذ إنها الهيئة الوحيدة التي تعمل على تنوير الأذهان وإيقاظ الوعي الشعبي في النفوس ونشر المبادئ السليمة والدين الصحيح والأخلاق الفاضلة..".

الإخوان المسلمون والأقباط: عبده مصطفى دسوقي، الجزء الأول، بحث منشور على موقع إخوان ويكي

الإخوان والوطنية

كتب البعض يشكك في وطنية الإخوان المسلمين، وفهمهم لمعنى الوطنية والتي قصروها على الحزبية فقط، أو القومية المصرية فحسب، غير أن الإمام البنا وضح فهم الإخوان المسلمين لمعنى الوطنية بمفهومها الشامل فيقول:

ويخطئ من يعلن أن الإخوان المسلمين يتبرمون بالوطن والوطنية؛ فالإخوان المسلمون أشد الناس إخلاصًا لأوطانهم، وتفانيًا فى خدمة هذه الأوطان، واحترامًا لكل من يعمل لها مخلصًا، وها قد علمت إلى أى حد يذهبون فى وطنيتهم، وإلى أى عزة يبغون بأمتهم.

ولكن الفارق بين الإخوان وبين غيرهم من دعاة الوطنية المجردة أن أساس وطنية الإخوان العقيدة الإسلامية.

فهم يعملون لمصر، ويجاهدون فى سبيل مصر، ويفنون فى هذا الجهاد؛ لأنها من أرض الإسلام وزعيمة أممه، كما أنهم لا يقفون بهذا الشعور عند حدودها، بل يشركون معها فيه كل أرض إسلامية، وكل وطن إسلامى.

على حين يقف كل وطنى مجرد عند حدود أمته، ولا يشعر بفريضة العمل للوطن إلا عن طريق التقليد أو الظهور أو المباهاة أو المنافع، لا عن طريق الفريضة المنزلة من الله على عباده.

وحسبك من وطنية الإخوان المسلمين أنهم يعتقدون عقيدة جازمة لازمة أن التفريط فى أى شبر أرض يقطنه مسلم جريمة لا تغتفر حتى يعيدوه أو يهلكوا دون إعادته، ولا نجاة لهم من الله إلا بهذا.. .

رسالة إلى الشباب عامة وإلى الطلبة خاصة

بل أوضح أن الإخوان يطالبون الجميع بتقديم مصالح الوطن من أجل التصدي للعدو المتربص على حساب المصالح الشخصية،

ففي رسالة إلى الملك يوضح الإمام البنا وطنية الإخوان المسلمين بهذا المعنى، وذلك حينما كانت تعرض قضية مصر على مجلس الأمن عام 1947م، فيقول تحت عنوان الإخوان المسلمون وتوحيد الصفوف:

فى هذه الساعات الفاصلة فى تاريخ مصر تتجه الأمة بكل تقدير وإكبار لجهود سموكم المباركة فى العمل لتوحيد الكلمة وضم الصفوف على الجهاد لقضية الوطن فى الميدانين الداخلى والدولى، وتنتظر الأمة بفارغ الصبر وصادق الدعوات أن تكلل هذه الجهود بالنجاح والتوفيق، فواصلوها على بركة الله مشكورين والله معكم والتاريخ يسجل لكم...".

جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد “242”، السنة الأولى، 25 ربيع الأول 1366ه- 16 فبراير 1947م.

وفي رسالة المؤتمر الخامس يرد على من يشككون في وطنية الإخوان المسلمين فيقول:

فكل مسلم مفروض عليه أن يسد الثغرة التي هو عليها وأن يخدم الوطن الذي نشأ فيه، ومن هنا كان المسلم أعمق الناس وطنية وأعظمهم نفعًا لمواطنيه لأن ذلك فرض إلهي.

فالإخوان أشد الناس حرصًا علي خير وطنهم، وتفانيًا في خدمة قومهم.. فالإخوان يحبون وطنهم ويحرصون علي وحدته القومية بهذا الاعتبار، ولا يجدون غضاضة علي أي إنسان أن يخلص لبلده وأن يفني في سبيل قومه وأن يتمني لوطنه كل عز ومجد وفخار..

الإخوان المسلمون يحترمون قوميتهم الخاصة باعتبارها الأساس الأول للنهوض المنشود، ولا يرون بأسًا بأن يعمل كل إنسان لوطنه وأن يقدمه في الوطن علي سواه..".

كما أكد أن الإخوان لا يفهمون معنى القومية البغيض، والشعارات العنصرية مثل مصر فوق الجميع، وغيرها حيث يؤكد أننا جميعا سواء فلا يظلم أحد او يُظلم، فيقول:

" الإخوان المسلمون لا يؤمنون بالقومية بهذه المعانى ولا بأشباهها، ولا يقولون: فرعونية وعربية وفينيقية وسورية، ولا شيئًا من هذه الألقاب والأسماء التى يتنابز بها الناس، ولكنهم يؤمنون بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنسان الكامل، بل أكمل معلم علم الإنسانية الخير: “إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربى على عجمى إلا بالتقوى".

ما أروع هذا وأجمله وأعدله!

الناس لآدم فهم فى ذلك أكفاء، والناس يتفاضلون بالأعمال، فواجبهم التنافس فى الخير، دعامتان قويمتان قويتان لو بنيت عليهما الإنسانية لارتفعت بالبشر إلى علياء السموات، الناس لآدم فهم إخوان، فعليهم أن يتعاونوا، وأن يسالم بعضهم بعضًا، ويرحم بعضهم بعضًا، ويدل بعضهم بعضًا على الخير، والتفاضل بالأعمال.

فعليهم أن يجتهدوا كل من ناحيته حتى ترقى الإنسانية، فهل رأيت سموًّا بالإنسانية أعلى من هذا السمو، أو تربية أفضل من هذه التربية؟.. .

رسالة دعوتنا

بل لم يقتصر فهم الوطنية الحقيقية على الإخوان، ولم يتهموا احد في يوم من الأيام بأنهم وطنيون وما سماهم غير ذلك، بل كانوا ينسبون الفضل لأهله، غير أنهم كانوا يعلمون ويعرفون المعاني الحقيقية للوطنية لجموع الشعب المصري والذي كانوا يرجون منه الانتفاضة على المستعمر الغاشم،

فيقول الإمام البنا تحت عنوان “بيان من الإخوان المسلمين إلى شعب وادي النيل: " فلما أن وضعت الحرب أوزارها، هب الإخوان يفقهون الأمة فى حقوقها، وينبهون الشعب إلى مطالبه المشروعة، ويستنهضون العزائم للعمل على نيل هذه الحقوق، فأصدروا البيانات وعقدوا المؤتمرات، وطلعوا على الأمة فى كل مطلب من مطالبها بمختلف الدراسات، ونادوا بإلحاح أن تنسى الأحزاب ما بينها من اختلافات ومهاترات فتتجمع الأمة صفا واحدا، فلا يجد الأجنبي منفذا من بين هذه الخلافات للمماطلة والمراوغة والتسويف، وأهابوا بأولى الأمر أن يعملوا من جانبهم وبحكم أوضاعهم الرسمية على تحقيق أهداف الوطن ونيل حقوقه المغتصبة..".

جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد “188”، السنة الأولى، 21 محرم 1366ه/15 ديسمبر 1946م، ص"1".

ثم يقول: ومن كل هذا الذي تقدم يبدو الفرق الواسع بين الوطني والسياسي، الوطني يعمل لإصلاح الحكم لا للحكم، ولمقاومة المستعمر للحصول على الحرية لا ليرثه في السلطة، ولتركيز منهاج وفكر ودعوة لا لتمجيد شخص أو حزب أو هيئة، ولهذا يحرص الإخوان المسلمون على أن يكونوا دائمًا وطنيين لا سياسيين ولا حزبيين.

وقد سارت الجماعة طوال تاريخها ملتزمة بهذا الفهم بل وأكددته مرات عديده كان آخرها في بيانها الجامع...

قضية الموقف العام من الناس جميعاً

مسلمين وغير مسلمين

وهنا نبادر فنقول، إن موقفنا من هذه القضايا ومن غيرها ليس مجرد موقف انتقالي واختياري قائم على الاستحسان، وإنما هو موقف منتسب إلى الإسلام ملتزم بمبادئه صادر عن مصادره... وعلي رأسها كتاب الله تعالي والسنة الصحيحة الثابته عن نبيه صلي الله عليه وسلم، والإخوان المسلمون يرون الناس جميعا حملة خير، مؤهلين لحمل الأمانة والاستقامة علي طريق الحق، وهم لا يشغلون أنفسهم بتكفير أحد إنما يقبلون من الناس ظواهرهم وعلانيتهم ولا يقولون بتكفير مسلم مهما أوغل في المعصية، فالقلوب بين يدي الرحمن، وهو الذي يؤتي النفوس تقواها، ويحاسبها على مسعاها.

ونحن الإخوان نقول دائما أننا دعاة ولسنا قضاة، ولذا لا نفكر ساعة من زمان في إكراه أحد علي غير معتقده أو مايدين به، ونحن نتلوا قوله تعالي: لا إكراه في الدين.

وموقفنا من إخواننا المسيحيين في مصر والعالم العربي موقف واضح وقديم ومعروف... لهم مالنا وعليهم ماعلينا، وهم شركاء في الوطن، وأخوة في الكفاح الوطني الطويل، لهم كل حقوق المواطن، المادي منها والمعنوي، المدني منها والسياسي، والبر يهم والتعاون معهم علي الخير فرائض إسلامية لا يملك المسلم أن يستخف بها أو يتهاون في أخذ نفسه بأحكامها، ومن قال غير ذلك أو فعل غير ذلك فنحن برءاء منه ومما يقول ويفعل...

إن ساسة العالم وأصحاب الرأي فيه يرفعون هذه الأيام شعار "التعددية " وضرورة التسليم بإختلاف رؤي الناس ومذاهبهم في الفكرو العمل.

والاسلام، منذ بدأ الوحي الي رسول الله صلي الله عليه وسلم يعتبر اختلاف الناس حقيقة كونية وإنسانية، ويقيم نظامه السياسي والاجتماعي والثقافي على أساس هذا الاختلاف والتنوع"  وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا”، والتعددية في منطق الإسلام تقتضي الاعتراف بالآخر، كما تقتضي الاستعداد النفسي والعقلي للأخذ عن هذا الآخر فيما يجري علي يديه من حق وخير ومصلحة... ذلك أن ““ الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها ".

لذلك يظلم الاسلام والمسلمين أشد الظلم من يصورهم جماعة مغلقة منحازة وراء ستار يعزلها عن العالم، ويحول بينها وبين تبادل الأخذ والعطاء مع شعوبه... والإخوان المسلمون يؤكدون - من جديد - التزامهم بهذا النظر الإسلامي السديد الرشيد... ويذكرون أتباعهم والآخذين عنهم، بأن علي كل واحد منهم أن يكون - فيما يقول ويعقل - عنواناً صادقاً على هذا المنهج... يألف ويؤلف... ويفتح قلبه وعقله للناس جميعا... لا يستكبر على أحد... ولا يمن على أحد... ولا يضيق بأحد... وأن تكون يده مبسوطه إلى الجميع بالخير والحب والصفاء، وأن يبدأ الدنيا كلها بالسلام... قولاً وعملاً... فبهذا كان رسولنا -صلى الله عليه وسلم- إمام رحمة ومهداه إلى العالمين... وبهذا وحده يصدق الانتساب إليه -صلى الله عليه وسلم- وإلى الحق الذي جاء به.. "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك”، “وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون".

وطنية الأمة الواحدة

المتتبع لجهود الإمام البنا سيجده لم يختزل الوطن في بلده مصر بل شمل كل بلد إسلامي، وكل مسلم ينطق بالشهادتين هو أخ له في الدين، ولا فرق بينهما رغم بعد المسافات، فيقول: وبذلك يكون الإسلام قد وفق بين شعور الوطنية الخاصة وشعور الوطنية العامة بما فيه الخير كل الخير للإنسانية جمعاء.

وقد وصف ذلك الدكتور يوسف القرضاوي بقوله:

يا أخي في الهند أو في المغرب   أنا منك أنت مني أنت بي

لا تسل عن عنصري أو نسبي     إنه الإسلام أمي وأبي

اهتم الإخوان المسلمون بكل جزء من أجزاء الوطن الإسلامي، ويودون أن يعرفوا عنه كل شىء، وأن يقدموا لكل قطر إسلامي أفضل ما يستطيعون من خدمة ومساعدة ذلك؛ لأنهم يعتقدون أن الوطن الإسلامي وطن واحد مهما فرقته المعاهدات الظالمة، ومهما حاولت سياسة الاستعمار الطائش أن تفصل بعض أجزائه عن بعض.

ولذا يذكر تحت عنوان "قطعة من وطننا" قوله: أيها المسلمون: إن الوطن الإسلامي لا يتجزأ، وإن كل شبر أرض فيه مسلم يقول لا إله إلا الله، أو رفعت عليه يوما من الأيام راية الله قد صار أمانة فى يد المسلمين قاطبة ولله ولرسوله، ووجب عليهم أن يفدوا حريته بالنفوس والأرواح، وأن يبذلوا فى سبيل المحافظة عليه الدماء والأموال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[الأنفال: 27].

ليست الأقطار الإسلامية المشرقة بنور الإسلام والتى تفيض بأخلص عواطف التراحم والتواد وتعلم الدنيا جميعا أقدس مبادئ الحق والعدالة والسلام، فى حاجة إلى إلحاد أوروبا وفجورها، ولا إلى إباحيتها وتهتكها، ولا إلى ماديتها وجحيم العداوة والبغضاء الذى تتلظى به جوانب أبنائها المتهالكين على الخطايا والآثام، حتى يخلصها السنيور موسولينى بعشرين ألفا من الجياع..“25”

مجلة النذير، العدد “23”، السنة الأولى، 8 رمضان 1357ه- 31 أكتوبر 1938م، ص”3-4”.

ولقد حدد الإمام البنا مفهوم الوطن في الإسلام وتقسيماته فيقول:

فالوطن فى عرف الإسلام يشمل:

1- القطر الخاص أولاً.

2- ثم يمتد إلى الأقطار الإسلامية الأخرى فكلها للمسلم وطن ودار.

3- ثم يرقى إلى الإمبراطورية الإسلامية الأولى التى شادها الأسلاف بدمائهم الغالية العزيزة، فرفعوا عليها راية الله، ولا تزال آثارهم فيها تنطق بما كان لهم من فضل ومجد، فكل هذه الأقاليم يسأل المسلم بين يدى الله تبارك وتعالى لماذا لم يعمل على استعادتها؟

4- ثم يسمو وطن المسلم بعد ذلك كله حتى يشمل الدنيا جميعًا.

ألست تسمع قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ﴾[الأنفال: 39]؟ وبذلك يكون الإسلام قد وفق بين شعور الوطنية الخاصة وشعور الوطنية العامة بما فيه الخير كل الخير للإنسانية جمعاء..".

جريدة الإخوان المسلمين الأربعينيات، العدد “40”، السنة الرابعة، 29 شوال 1355ه/ 12 يناير 1937م، ص”1-3”.

ويؤكد على معنى الوطن الأكبر بأنه ليس هذه التقسيمات التي قام بها المستعمر بين أقطار الوطن الإسلامي وأن وطن المسلمين وطن واحد، فيقول:

"وملاحظة أخرى قد تكون بعيدة عن تفكيرنا المحدود بالواقع والبيئة الخاصة وإن كانت صحيحة فى ذاتها، هى أن الإسلام لا يتقيد بهذا التقسيم السياسى فى الوطن الإسلامى العام فهو عقيدة ووطن وجنسية، وأرض المسلمين فى نظره وطن واحد، فالزيادة فى جزء منه قد تسد نقصًا فى جزء آخر...".

المرجع السابق: العدد “2”، السنة الخامسة، 18ربيع الأول 1356ه/ 28 مايو 1937م، ص”1، 13”.

ويقول في خطبة منى أثناء رحلة الحج عام 1945م:

إننا سنجاهد فى مصر، وإن إخوانكم فى فلسطين قد وطدوا العزم على أن يعيشوا، وإن إخوانكم فى سوريا يجاهدون، وإن إخوانكم فى إندونيسيا يبذلون الدم فى سبيل الحرية، وفى المغرب أعلنوها صرخة داوية.

وليس فى الدنيا الآن قوة تستطيع أن تكبت أو تحد أو تقف فى وجه عملنا، أو تنال من صفوفنا، وإن كانت قوة الحديد والنار ستؤخر النصر قليلاً ولكنا سننتصر أخيرًا ﴿وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُّتِمَّ نُورَهُ﴾ [التوبة: 32].

ما دمنا قد اتجهنا إلى مطالبنا، فعليكم أن تعرفوا حقوق أوطانكم الخاصة، وعلى أهل كل وطن أن يساعدوا إخوانهم فى الوطن العام.

وجزى الله شاعر الإخوان خيرًا إذ يقول:

ولست أدرى سوى الإسلام لى وطنا   الشام فيه ووادى النيل سيان

وحيثما ذكر اسم الله فى بلد    عددت أرجاءه من لب أوطانى

فكل أرض الإسلام أوطاننا -أيها المسلمون، وعلى كل أمة أن تدافع عن وطنها ما استطاعت، وعليها أن تعمل على مساعدة غيرها، وتلك فرصة إن أفلتت فلن تعود أبدًا.

سلاحكم الإيمان بحقوقكم تعملوا لها جاهدين، ومن حقنا ونحن أمة حرة أن نعيش كرامًا أحرارًا، والقضية التي تتجمع الدول المنتصرة لها مرة هنا ومرة هناك هى قضيتنا فاعملوا وأمامكم القرآن...".

أنور الجندي: مع بعثة الحج للإخوان المسلمين عام 1364ه، دار القلم، ص”55-62”

الإمام البنا أستاذ الوطنيين:

اتسمت الوطنية في شخصية الإمام البنا بملامح خاصة تمثلت في حب الأوطان حيث بدأت بوادر الوطنية لديه إبان ثورة 1919 حين كان تلميذاً لم يتعد ثلاث عشرة سنة حيث كان يرى المظاهرات التي كانت تجوب البلاد وكان كغيره من الطلاب يشترك في هذه المظاهرات وبشعور فياض حتى أنه بعد أن سمع الأحاديث عن لجنة ملنر واجماع الأمة على مقاطعتها نظم قصيدة طويلة لا يذكر منها إلا بيتين اثنين:

يا ملنر ارجع ثم سل *** وفدا بباريس أقام

وارجع لقومك قل لهم *** لا تخدعوهم يالئام

وهو في مذكراته تجده يعبر في مواضع كثيرة عن بلده الحبيب مصر بكلمة الوطن وتتكرر هذه الكلمة بشكل يوحي بشعوره الوطني المتأجج.

كما كان يعتقد أن الخدمة الوطنية جهاد مفروض لا مناص منه، واستفزه كما استفز غيره ما كان عليه مكتب ادارة شركة قناة السويس من فخامة مع استخدامه المصريين ومعاملتهم كالاتباع المضطهدين

وتحدث عن هذه المشاعر في مذكراته والتي كان لها "أثر كبير في تكييف الدعوة والداعية" على حد قوله.

كما تجده مثلاً حين يتحدث عن العَلَم يؤكد أنه في ذاته قطعة قماش لا قيمة لها مادياً، ولكنه يرمز إلى كل معاني المجد والسمو التي يقترن بها الوطن، وأن المسلم يجب عليه أن يحمي هذا العلم ويعظمه ويحترمه باعتباره رمزاً لوطنيته.

وفي رسالته “نحو النور” يضع بعض الخطوات الإصلاحية التي تنمي الحس الوطني وتعمل لصالح الوطن ومن بينها:

- أنه دعا إلى حسن اختيار ما يذاع أو يعرض على الأمة من برامج ومحاضرات وأغان في وسائل الإعلام كوسائل للتربية الوطنية الخلقية الفاضلة.

- ورأى أن وضع سياسة ثابتة للتعليم تؤدي إلى نهوض الوطن وترفع مستواه وتقرب بين الثقافات المختلفة في الأمة بتربية الروح الوطني.

- كما طالب بالعناية بالتاريخ الإسلامي والتاريخ الوطني والتربية الوطنية وتاريخ حضارة الإسلام.

وتتجلى أيضا وطنية البنا في دعوته إلى تشجيع الصناعة الوطنية حيث يقول: "ولا تلبس ولا تأكل إلا من صنع وطنك الإسلامي”.

وبدا ذلك واضحاً حين قام بتأسيس معهد حراء الإسلامي فوق مسجد الإخوان حيث اشترط للتلاميذ زياً خاصاً هو جلباب ومعطف من نسيج وطني وطربوش أبيض من صناعة وطنية وصندل من صناعة وطنية وذلك ليعود التلاميذ على التمسك بالصناعات الوطنية منذ بداية نشأتهم.

ونجده أيضاً قد استصدر مجلة النذير في مايو 1938، وقد ظهر منها واضحاً اتجاه الاخوان الوطني وابتداء اشتراكهم في الكفاح السياسي في الداخل والخارج.

كان هذا غيض من فيض وطنية البنا التي كان من أجمل ثمارها نشأة جماعة الإخوان المسلمون والتي حملت راية الجهاد والكفاح الوطني عبر قرن كامل والتي استشهد البنا في سبيلها وسالت دماؤه على أرض هذا الوطن الحبيب الذي ملأ هواه قلبه فعلمنا معنى حب الأوطان.

فريضة حب الوطن عند الإخوان المسلمين:

ومن كوة هذا الفهم الإسلامي الصحيح سارت دعوة الإخوان المسلمين، فحب الوطن عندهم عطاء وبذل وتضحية وفداء، وهي في فكرهم.

- فريضة لازمة، تعني أن يتفانى الإنسان في خدمة بلده، وأن يقدم أكثر ما يستطيع من الخير للوطن الذي يعيش فيه، تقرباً إلى الله، ولهذا أقاموا المساجد والمدارس، وأنشئوا المستشفيات، وسيروا القوافل الطبية، واهتموا بمحو الأمية، وتعهدوا الفقراء بالعلاج وبالدعم المادي والعيني، وتبنوا قضايا العمال والفئات المهمشة والمحرومة، وقضايا العدالة الاجتماعية.

- وإيمان صادق، يدفع إلى العمل بكل جهد في تحرير الوطن وتخليصه من غصب الغاصبين، وتحصينه من مطامع المعتدين، وتوفير استقلاله، وتحقيق ارتقائه ونهضته، وغرس مبادئ العزة والحرية في نفوس أبنائه “وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ”، ولهذا دفعوا بشبابهم مع الفدائيين الوطنيين لقتال الاحتلال حتى أرغموه على الجلاء من مصر.

- وعمل مخلص لتقوية الرابطة بين أبناء الوطن، وتعاون صادق في تحقيق مصالحه؛ استجابة لتوجيه القرآن العظيم “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا”، وتطبيقا لأمر الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم: ““وكونوا عباد الله إخواناً”،

ولذلك أسهموا في كل مجالات العمل الأهلي والتطوعي، وأنشأوا آلاف الجمعيات الأهلية لتنمية الأوطان، وشهدت النقابات ونوادي هيئات التدريس والاتحادات الطلابية والنقابية قفزة هائلة وخدمة متميزة باشتراكهم في إدارتها.

- وحِرْص أكيد على وحدة الأمة التي تتألف من عناصر دينية مختلفة، كفل الإسلام -وهو دين الوحدة والمساواة- تقوية الروابط بينهم، ما داموا متعاونين على الخير “لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ”.

وقد ساهم عمل الجماعة طوال تاريخها في بلورة جامعة وطنية تنطلق من الإسلام ذاته، تحقق الوحدة والتعاون، وتجعل لغير المسلمين كل حقوق المواطن وواجباته.

وأما شبهة أن “لا أهمية للأرض في نظر الإسلام”!!

فيرد عليها الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه: “الوطن والمواطنة في ضوء الأصول العقدية والمقاصد الشرعية”:

“هذا التصور غير صحيح بالنسبة للإسلام، الذي يمزج الروح بالمادة، ويعتبر الإنسان مخلوقاً مزدوج الطبيعة: فهو قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله، كما حدثنا القرآن عن خلق الإنسان الأول آدم - عليه السلام: إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين”. “ص: 71/72”

وقد أهبط الله آدم إلى الأرض وسخرها له ولذريته، وجعلها له مهاداً وفراشاً وبساطاً، وقال: ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين”. “سورة الأعراف، آية 24”

وإذا كان هذا شأن الأرض بصفة عامة، فإن الأرض التي يعيش فيها الإنسان ويكون فيها مولده ونشأته وتعليمه وعلاقاته وصداقاته يكون لها شأن خاص”.

ثم يقول: "وهذه الأرض أو هذه البلدة، لها حقوق على أهلها: أن يتعاونوا فيما بينهم على الخير، وأن يتكافلوا في السراء والضراء، وأن يتناصروا إذا دهمهم عدوّ، يريد أن يحتل أرضهم، ويفرض سلطانه عليهم بغير إرادتهم”.

ومن هنا كان الإخوان المسلمون أعمق الناس وطنية، وأشد الناس حرصاً على خير أوطانهم وتفانياً في خدمة قومهم.

وقد أعلن الإخوان في كل المناسبات أن لهم هدفين أساسيين:

1 - أن يتحرر الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي، سياسي أو اقتصادي أو روحي، وذلك حق طبيعي، لا ينكره إلا ظالم جائر أو مستبد قاهر.

2 - وأن تقوم في هذا الوطن الحر دولة ديمقراطية حرة، تعمل بأحكام الإسلام، وتطبق نظامه، وتؤدي مهمتها كخادم للأمة وأجير عندها وعامل على مصلحتها، تلتزم بحراسة حدود الوطن، وصيانة الأمن، وإنفاذ القانون، ونشر التعليم، وإعداد القوة، وحفظ الصحة، ورعاية المنافع العامة، وتنمية الثروة، وحراسة المال، وتقوية الأخلاق، وتحقيق العدالة الاجتماعية، حتى يشعر كل أبنائها بأنه قد أصبح لهم في هذا الوطن ما يعنيهم أمره، ويهمهم شأنه.

ويقول المرشد العام السابع للجماعة الأسير المعتقل طغياناً وتكبراً وعدواناً في سجون الظالمين المضيعين لحقوق الأوطان الدكتور محمد بديع فك الله أسره وأسر إخوانه أجمعين، تحت عنوان: “ الهجرة وحب الأوطان “.

لم تكن هجرة الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام رحلةً خلويةً، ولا سياحةً ترفيهيةً، يعود الإنسان بعدها إلى بيته منشرحَ الصدر، متجدِّدَ النشاط لاستئناف العمل واستمرار الحياة، ولم تكن كذلك سعيًا إلى الرزق وسعة العيش، يغير بها الإنسان من حاله ويوسع على نفسه وعياله، كما لم تكن بعدًا عن وطنٍ وانتقالاً إلى وطنٍ أفضل منه.. بل هاجروا من وطنٍ أحبُّوه بكل مشاعرهم، وأرضٍ طاهرةٍ قدَّسوها بكل ما تحمل من تراث الأجداد وميراث الأنبياء، وبما تحويه من أقدس بيتٍ يُعبَد فيه الله “إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ “97” آل عمران”.

حرمٍ آمنٍ تُجبى إليه ثمراتُ كل شيء، وتأتيه الوفود من كل فجٍّ عميقٍ.. تهوى إليه الأفئدة، ويأمن الناس فيه على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ويَحرُم فيه القتال، بل قتل الطير أو قطع النبات “أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ” “القصص: من الآية 57” أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ... “ “العنكبوت: من الآية 67” فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ” “قريش”..

وطن أحبُّوا أن يرفعوا شأنه ويقدِّسوا حرماته ويُطهِّروه من رجس الأوثان وعبادة الأصنام، ويُخرجوه من ظلمات الشرك والكفر إلى نور التوحيد والإيمان..

وطنٍ أحبُّوا أن يرفعوا شأن الإنسان فيه عقلاً وفكرًا، وخلقًا وسلوكًا “يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ” “الانفطار”.

وطنٍ أرادوا أن يُصلحوا نُظُمه الاجتماعية والاقتصادية، فيُساووا فيه بين الناس دون تمييزٍ بجنسٍ أو لونٍ أو عقيدةٍ، ويُعطوا الضعفاء من النساء واليتامى والأرقاء حقوقهم التي هضمها الأقوياء والمتجبِّرون، ويُنصفوا الفقراء من ظلم الأغنياء، ويُطهِّروا المعاملات من الربا والاحتكار، ويُطهِّروا الأخلاق من الخنا والفجور والعربدة ورجس الخمور..

وطنٍ أرادوا أن يضمُّوا فيه القوى المتنافرة والعصبيات المتناحرة إلى وحدةٍ تجمع الشمل وتوحِّد الصف وتوفِّر القوى ويرضاها الرب الغفور “إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ” “الأنبياء”.. “وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا” “آل عمران: من الآية 103”.. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ” “الحجرات”..

وطن أرادوا أن يرفعوا شأنه ويرتقوا بنُظُمه وشرائعه وأعرافه وقوانينه، ويُنظِّموا العلاقات بين قاطنيه بالعدل والمساواة والقسطاس المستقيم “إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ” “النساء: من الآية 58”.. إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” “النحل”..

وطن كانوا يدعون أهله بالحكمة والموعظة الحسنة، دعوةً ربانيةً، سلميةً رحمانيةً “وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ” “يونس”..

لم يرفعوا سلاحًا، ولم يكرهوا أحدًا: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ” “البقرة: من الآية 256”.”، “فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ” “الكهف: من الآية 29”..

لم يطلبوا من أحدٍ أجرًا ولا شكورًا “قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى” “الشورى: من الآية 23”، بل هم الذين تحمَّلوا الإيذاء والإهانة، والجَور والظلم، والاضطهاد والحرمان الذي وصل إلى حد الحصار والتجويع في شِعب أبي طالب.. عُذَّبوا وطوردوا وقُتل منهم من قُتِل، حتى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أطهر خلق الله وأرحمهم وألينهم؛ دبَّروا لقتله غيلةً ومكرًا “وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ” “الأنفال 30”.

ويا لها من كلماتٍ تلك التي ودَّع بها الحبيب المصطفى محمد - صلى الله عليه وسلم - وطنه الحبيب وبلدته المباركة التي نما وترعرع بها، وتلك البقاع التي رأت مبعث النور ومنازل الوحي في غار حراء وجبال مكة وشِعابها!.. التفت إليها - صلى الله عليه وسلم - ليقول: ““والله، إنك لأحَبُّ أرض الله إلى الله، وأَحَبُّ أرض الله إليَّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت”““.

ورغم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استُقبل أروع استقبالٍ من أهل المدينة التي استضاءت بنوره وتضوَّعت من هداه، إلا أن الحنين إلى مكة لم يفارقه هو ولا أصحابه الكرام، حتى كان بلال ينشد في مرضه:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً *** بوادٍ، وحولي إذخرٌ وجليلُ

وهل أَرِدَنَّ يومًا مياهَ مجنةٍ *** وهل يبدوَن لي شامةٌ وطفيلُ

حنينٌ إلى وطنه الأصيل، حتى إلى الآبار العذبة والجبال الشامخة.. حتى إلى الجماد الذي يسبح بحمد خالقه.. حنينٌ وحبٌّ دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يرفع يده إلى الله - تعالى -بالدعاء: ““اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبِّنا مكة أو أشد.. اللهم وصحِّحها لنا وبارك لنا في مُدّها وصاعها”““.

ما أحوجَنا إلى هذا الحب لبلادنا التي أنعم الله علينا بها!.. نقدِّس مكانتها، ونحفظ حرماتها، ونُصلح من شأنها.. نرفع عمرانها، ونُعلي بنيانها.. نزرع الأرض البوار، ونستثمر البحار والأنهار.. نُصلح كل ما اعوجَّ من شئونها، ونقيم الحق والعدل، ونضع الميزان ونُعلي من كرامة الإنسان، وهذا يتطلب منا جهدًا وجهادًا، وصبرًا واحتسابًا، وقبل ذلك حب عميق لما أنعم الله علينا من بلادٍ كريمة “بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ” “سبأ: من الآية 15”.

فإلى العمل والجهاد، والألفة والاتحاد لرفعة البلاد وإسعاد العباد.. المجاهد من جاهد نفسه، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه.

 

موجز مفهوم المواطنة في فكر الجماعة:

يُقصد بالمواطنة:

العضوية الكاملة والمتساوية في المجتمع بما يترتب عليها من حقوق وواجبات، وهو ما يعني أن كافة أبناء الشعب الذين يعيشون فوق تراب الوطن سواسية دون أدنى تمييز قائم على الدين أو الجنس أو اللون أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي والموقف الفكري.

ولا يستطيع باحث أو دارس مُنصف لفكرة “الوطن والوطني “ أن ينسى أو يتناسى جهود الإمام حسن البنا في هذا المضمار، فقد اتضح مفهوم الوطن والوطنية لديه من خلال النظرة الموسوعية التي ركز عليها في تناوله لهذا المفهوم، واعتباره أن الوطن والوطنية جزء لا يتجزأ من فهم المسلم لإسلامه وتجرده وحبه له.

والمتتبع لجهود الإمام البنا يلمس أنه يحب وطنه، ويحرص على وحدته القومية بهذا الاعتبار، ولا يجد غضاضةً على أي إنسانٍ أن يخلص لبلده، وأن يفنى في سبيل قومه، وأن يتمنى لوطنه كل مجد وكل عز وفخار، كما يحترم قوميته الخاصة باعتبارها الأساس الأول للنهوض المنشود، ولا يرى بأسًا أن يعمل كل إنسانٍ لوطنه، وأن يقدمه في العمل على سواه.

يقول الإمام الشهيد - رحمه الله -: “أما مصر، فإنها قطعة من أرض الإسلام، وزعيمة أممه “رسالة إلى الشباب”..

وفي المقدمة من دول الإسلام وشعوبه “الإخوان المسلمون تحت راية القرآن”..

ونحن نرجو أن تقوم في مصر دولة مسلمة، تحتضن الإسلام، وتجمع كلمة العرب، وتعمل لخيرهم، وتحمي المسلمين في أكناف الأرض من عدوان كل ذي عدوان، وتنشر كلمة الله وتبلغ رسالته..

فالمصرية لها في دعوتنا مكانتها ومنزلتها وحقها في الكفاح والنضال.. ونحن نعتقد أننا حين نعمل للعروبة نعمل للإسلام ولخير العالم كله..” “رسالة دعوتنا في طور جديد”.

والإمام البنا يرفض الوطنية إذا أُريد بها تقسيم الأمة طوائف متناحرة، تُفسَّر وفق مصالح شخصية تستغل من قِبل العدو لمنع اتصالِ بعضهم ببعض وتعاونهم، ويرى أن هذه وطنية لا خيرَ فيها وزائفة؛ يقول:

“وإن كانوا يريدون بالوطنية تقسيم الأمة إلى طوائف تتناحر وتتضاغن وتتراشق بالسباب وتترامى بالتهم ويكيد بعضها لبعض، وتتشيع لمناهج وضيعة أملتها الأهواء وشكَّلتها الغايات والأغراض وفسرتها الأفهام وفق المصالح الشخصية، والعدو يستغل كل ذلك لمصلحته ويزيد وقود هذه النار اشتعالاً يُفرِّقهم في الحق، ويجمعهم على الباطل، ويُحرِّم عليهم اتصال بعضهم ببعض ويحل لهم هذه الصلة به والالتفاف حوله فلا يقصدون إلا داره ولا يجتمعون إلا زواره، فتلك وطنية زائفة لا خيرَ فيها لدعاتها ولا للناس، فها أنت ذا قد رأيت أننا من دعاةِ الوطنية، بل مع غلاتهم في كل معانيها الصالحة التي تعود بالخير على البلاد والعباد، وقد رأيت مع هذا أن تلك الدعوة الوطنية الطويلة العريضة لم تخرج عن أنها جزء من تعاليم الإسلام”.

رسالة دعوتنا، ص21

ومع حرص الإمام البنا دوما على سعي الإخوان لكي يكونوا أشد الناس إخلاصًا لأوطانهم، وتفانيًا في خدمتها، واحترامًا لكل مَن يعمل لها مخلصًا، إلا أنه يقرر أن هناك فروقًا بين الوطنية كما يفهمونها، وبين دعاة الوطنية المجردة.

فوطن المسلم يمتد لكي يشمل في حسهم ومشاعرهم ويحظى برعياتهم وجل همهم، كل أرض فيها مسلمون، فأساسَ وطنية المسلم ينبع من عقيدته الإسلامية، فالإسلام قد جعل منبع الشعور الوطني، العقيدة لا بالعصبية الجنسية أو الحدود الجغرافية فقط، وجعل هدف المسلم، العمل للخير من أجل.

يقول الإمام البنا:

“أما وجه الخلاف بيننا وبينهم “دعاة الوطنية الجغرافية فقط” فهو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله وطني عندنا له حرمته وقداسته وحبه والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره، وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا نهتم لهم ونشعر بشعورهم ونحس بإحساسهم.

ودعاة الوطنية فقط ليسوا كذلك، فلا يعنيهم إلا أمر تلك البقعة المحدودة الضيقة من رقعة الأرض، ويظهر ذلك الفارق العملي فيما إذا أرادت أمة من الأمم أن تقوي نفسها على حساب غيرها، فنحن لا نرضى ذلك على حساب أي قطرٍ إسلامي وإنما نطلب القوة لنا جميعًا، ودعاة الوطنية المجردون لا يرون في ذلك بأسًا، ومن هنا تتفكك الروابط، وتضعف القوى، ويضرب العدو بعضهم ببعض”.

رسالة دعوتنا، ص21 - 22

ويقول الإمام البنا كذلك: “يسمو وطن المسلم بعد ذلك كله حتى يشمل الدنيا جميعًا؛ ألست تسمع قول الله- تبارك وتعالى -: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ” “الأنفال: 39”،

وبذلك يكون الإسلام قد وفَّق بين شعور الوطنية الخاصة وشعور الوطنية العامة، بما فيه الخير كل الخير للإنسانية جميعًا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا”... “الحجرات: 13”.

رسالة نحو النور ضمن مجموع الرسائل- ص71

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين

والله أكبر ولله الحمد.