بقلم: د. أحمد حسن

واحد من علماء الأزهر المشهورين، وأحد دعاة الإخوان المرموقين، طالما هز أعواد المنابر بصوته الجهوري الذي يشق أجواء الفضاء، ويكاد يبلغ عنان السماء؛ حتى كانت كلمات الشيخ قواعد تُدرَّس وتُوجَّه إلى الإخوان.

أفنى عمره في خدمة الدعوة والقضية الفلسطينية، فقد كانت واضحة في ذهنه قضايا المسلمين وضوح شرعة رب العالمين في قلبه إيمانًا، وفي فكره علمًا، وشرعه تامة كاملة أحكمت ضوابط الأمس فسعد الناس، ونكص الناس عنها حاضرًا فشقوا..

كان الإسلام واضحًا في نفسه وفي فكره، فنقله على صورته الأولى نقيًّا بلا شوائب، كاملاً بلا تجزئة.

كان الوعظ في مفهومه كلمة حق تُقال، وسلوكًا يُحتذى، وجهادًا تشحذ له الهمم. فكان بين الألوف فريدًا وبين الأقران مميزًا.

بدأت صلته بالقضية الفلسطينية منذ كان صبيًّا صغيرًا، وبالتحديد بداية من عام 1929م، يقول عن ذلك: "كان والدي يرحمه الله مشتركًا في مجلة "الفتح"، كان صاحبها الأستاذ محبّ الدين الخطيب يرحمه الله، والذي رأس فيما بعد مجلة (الأزهر)، ثم جريدة (الإخوان المسلمون)، وكان الخطيب قد فتح صفحة بالمجلة لجمع التبرعات، تحت عنوان "ثورة البراق"، ولم أكن أدري ما حكاية البراق، ولكن كان يسرّني أن يُنشَر اسم والدي بالمجلة، وأنه مع جماعة من التجار يدفعون اشتراكًا شهريًّا لمجاهدي فلسطين".

هذا الأمر كان له كبير أثر في حياة الصبي عبد المعز عبد الستار، في أن يأخذ صور المجاهدين وصور فظائع الإنجليز وهم يدخلون بيوت المجاهدين، وهم يرمون المصاحف، ويدمرون كل شيء فيه، ثم يقبضون على الناس، التي تنشرها مجلة الأستاذ محب الدين الخطيب، ثم "يبرْوزْها" (يجعل لها إطارًا) على ورق كرتون كبير، وكانت لي أخت تحيط هذه الصور بـ"ترتر" أحمر وأسود، ليشارك مجموعة من الصبية في جمع التبرعات من القرى.

ينقل الشيخ عبد المعز عبد الستار ما كان يحدث خلال هذه المرحلة فيقول: "قررنا أن نجمع التبرعات، وكان في البلد ضيق وفقر شديدان، فقررنا جمع الحبوب من القرى، وكنا نأخذ هذه الصور، ونعرضها في المسجد، و"دوّار" العُمْدة، ونتفق مع إخواننا في القرى المجاورة، قائلين لهم: "سنأتيكم في وقت كذا، فيستعدون للقائنا، ونذهب عن اللجنة، وأحيانًا نختار منا المتحدثين، فيخطبون في الناس "إخوانكم في فلسطين يبذلون دماءهم وأرواحهم في سبيل الدفاع عن المسجد الأقصى، وعن أرض الإسلام، وعن شرف المسلمين، فإذا وُجِدَ من يبذل روحه ودمه أفلا تبذلون أنتم شيئًا، ألا تعينون المجاهدين؟.

وكنا نحمل "قُفَّة" للأرز، وأخرى للفول، وثالثة للشعير، وأخرى للقمح، ونمرّ في القرية فيُخرِج كل فلاح ما عنده، حتى إذا امتلأت "القُفَف" نفرغها في "دوّار" العُمْدة، أو ساحة المسجد، ثم يجيء آخر النهار تجار يشترون الذي جمعناه، مما جاد به أهل القرية، ونعود نحن بالمال لنرسله للمجاهدين.

موقفه من الاحتلال

في سنة 1936م، ألقى أحد الوزراء الإنجليز، واسمه مستر "هور" تصريحًا سخيفًا، يتحدّى فيه العرب والمسلمين والمصريين، جاء فيه "على المصريين ألا يلحّوا في المطالبة بالجلاء والاستقلال.. نحن لو خرجنا ستجيئ إليهم روسيا".

نتج عن هذا التصريح أن ضجّت البلد، وثار الطلاب، وتألّف وقتها اتحاد من الأزهر والجامعة، وكان فيه الشيخ "أحمد حسن الباقوري" عن الأزهر، ومعه الشيخ "محمد نائل" وآخرون، ومن الجامعة "أحمد حسين"، و"فتحي رضوان" يرحمهما الله ومجموعة من شباب مصر المتوقّد.

في الزقازيق، كان دور عبد المعز عبد الستار الذي كان ما زال طالبًا في القسم الثانوي بارزًا في هذه الأحداث؛ حيث شارك في تسيير المظاهرات، والدعوة لمقاطعة الإنجليز.

يذكر عن هذه الفترة: "في إجازة سنة 1935م، قامت ثورة الشيخ عز الدين القسّام يرحمه الله في فلسطين، فقلنا إن خير ما نغيظ به الإنجليز أن نمدّ المجاهدين بما نستطيع، بدلاً من أن نكتفي بتسيير المظاهرات.

وتألّفت لجنة من طلبة مدينة "الزقازيق" عاصمة محافظة الشرقية، والشباب في بلدنا "فاقوس"، وبدأنا نجمع التبرعات لنرسلها إلى المجاهدين".

في رحاب الإخوان

 

 

يحكي عن معرفته بالإخوان فيقول: "ذات يوم ذهب أحدنا للصلاة في مسجد غير الذي اعتدنا الصلاة فيه، وتأخر قليلاً، وكان اسمه نور المتيم يرحمه الله، فلما عاد قلت له ما الذي أخّرك يا شيخ نور؟ قال في المسجد داعية شاب يتحدث حديثًا عجبًا، جميلاً، ويقول إنه من الإخوان، وهو شاب أزهري.

فقلت له: ولماذا لم تقل لنا لنذهب معك؟.. هيا بنا، وذهبنا بالفعل، فإذا هذا الشاب يتحدث عن الإسلام، ومجده، وعن المسلمين وواجبهم في الدفاع عن الإسلام وشرفه، وعن الجهاد، وأنه ما ترك قوم الجهاد إلا ذُلُّوا، ويعرض شيئًا من تاريخ الإسلام.. فسَرَّنا حديثُه هذا.

وكان هذا الداعية ضيفًا عند أحد الصالحين، الذي كان يعمل عند خالي، في ماكينة طحين، واستأذنَّا في زيارته، وكان الضيف هو "محمد البنّا" شقيق الشيخ حسن البنا، والذي كان في مثل سني في السنة الرابعة لكن بمعهد القاهرة، ومعه طالب آخر اسمه محمد عبد الحافظ طالبًا بالحقوق وابن عُمْدة "المَرْج".

يقول عن أسباب التحاقه بالإخوان: "التحقت بالإخوان؛ لأني وجدتها دعوة عملية، قوامها "أعتقد، وأتعهّد".. "أعتقد أن الأمر كله لله، وأن سيدنا محمد خاتم رسله للناس كافة، وأن الجزاء حق.

وأتعهّد بأن أرتب على نفسي حزبًا من القرآن الكريم، وأن أدرس السّنة المطهّرة، وتاريخ الصحابة الكرام.

وأعتقد أن الاستقامة، والفضيلة، والعلم من أركان الإسلام.

وأتعهّد بأن أكون مستقيمًا، وأن أؤدي الفرائض، وأعمل كذا.. وأن أوثر المحبة والود على التخاصم والتقاضي، وأن أبذل من مالي.. إلخ".

لقاء وداع

كانت هناك أكثر من محاولة للشاب عبد المعز عبد الستار كي يرى الإمام البنا، بعد أن انتمى إلى دعوة الإخوان على يد "محمد البنا"، وفي المقابل كان الإمام البنا حريصًا على رؤية هذا الشاب الذي طالما سمع عنه من شقيقه "محمد"، وعن دوره في جمع التبرعات لفلسطين.

والغريب أن أول لقاء يجمع بين الشاب عبد المعز عبد الستار والإمام حسن البنا هو وداع الإمام البنا له قبل ذهابه إلى الحج ضمن بعثة جامعة الأزهر؛ حيث شارك الإمام البنا في وداع بعثة الحج، عند محطة قطار "كوبري الليمون".

يحكي الشيخ عبد المعز عبد الستار ما حدث في هذا اللقاء فيقول: "في الصباح، ذهبنا للمحطة، وإذا بشابٍّ ملتحٍ جميلٍ، وراءه الشيخ خالد السيد، وكان زميلاً لنا، وصار فيما بعد مديرًا لمجمع البحوث الإسلامية، الذي أنشئ بدلاً من لجنة كبار العلماء، فقال صاحبنا هذا هو الأستاذ البنّا.

وكنت لحظتها داخل القطار، وفَرِحًا بشبابي، فمن ذا الذي يحجّ في مثل سني؟ فنزلت لما رأيته، فضمّني إليه قائلاً: "أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك، زوّدك الله التقوى"، فقد عرفته نظريًّا من رسائله، وعرفته عمليًّا في رحلة الحج، عندما كان في وداعنا، وقد كانت أول مرة تراه عيني".

الإخوان وفلسطين

مما حبب الشيخ عبد المعز عبد الستار في دعوة الإخوان وزاد ارتباطه بهم، وجود قسم خاص بفلسطين داخل الجماعة، والتي تعتبر شغف الشيخ منذ نعومة أظفاره، والتي بذل من أجلها الكثير.

يقول عن دوره ضمن هذا القسم مع الإخوان: "كنا نوزع منشورات لمقاطعة اليهود، ونقف أيضًا على أبواب المحال التي يملكها اليهود لحثّ الناس على عدم الشراء منها (مثل شيكوريل، وشملا، وسمعان، وبنزايون، وعمر أفندي)، وكنت أقف بحيث أتلقى الداخل فأقول له هل تعلم أنك الآن ذاهب لتُعِين على قتل إخوانك في فلسطين؟".

ويذكر أنه في أحد المرات تم إعداد منشور، أكبر من حجم جريدة "الأهرام"، وفيه أسماء التجار اليهود في القاهرة تجار الذهب، وتجار "المنيفاتورة" (الأقمشة والمفروشات)، وغيرها، للصق على الحوائط.

وكان اختيار الإمام حسن البنا للشيخ عبد المعز عبد الستار في أن ينضم إلى قسم فلسطين ثلاثة أسباب، يرويها فيقول: "اختارني الإمام البنّا دون غيري ربما لثلاثة أسباب:

أولها أنني كأزهري لي صلة بإخواننا في فلسطين، يعني لنا هناك الشيخ "محمد نمر الخطيب" في حيفا، و"مشهور الضامن بركات" في عكا، كانا يدرسان بالأزهر، وكان لنا بهما صلة ككل المبتعثين الأزهريين، وكان الفلسطينيون خصوصًا يزوروننا ونزورهم.

ثانيها: أنني خطيب في جماعة الإخوان.

ثالثها: أن لديَّ "جوازَ سفرٍ" جاهزًا، وكان من المقرر أن أشارك في الحفل الأول لاستقلال سوريا، وكان الإخوان قد شاركوا في مقاومة الفرنسيين في سوريا، وأرسلوا بعثة طبية، وأرسلوا بعض المتطوعين.

مبعوث الإمام البنا

 

 

يقول الأستاذ كامل الشريف في كتابه "الإخوان المسلمون في حرب فلسطين" عن الشيخ عبد المعز عبد الستار الذي كان أول من أرسله الإمام الشهيد حسن البنّا إلى فلسطين عام 1946م: "حين وضحت نيات السياسة البريطانية في فلسطين أخذ الإخوان يعقدون المؤتمرات تباعًا، ويبينون للشعوب والحكومات حقيقة هذا الخطر الذي يهدد كيانهم ومستقبلهم حتى نجحوا في إشراك العالم الإسلامي كله في هذه القضية، وباتت قضية المسلمين والعرب لا قضية أهل فلسطين وحدهم، وحين قامت القلاقل في فلسطين أخذوا يمدون المجاهدين بما يقع في أيديهم من مال وسلاح حتى كانت ثورة (1936م)، حين نجح عدد من شبابهم في التسلل إليها، والاشتراك مع الثوار في جهادهم وخاصة في مناطق الشمال؛ حيث عملوا مع المجاهد العربي الكبير (الشيخ عز الدين القسام)، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية أخذ الإخوان يعملون للقضية عملاً إيجابيًّا، فأرسلوا وفودًا من دعاتهم وشبابهم يؤلبون العرب، ويستحثونهم للكفاح، ويتولى نفر منهم تدريب الشباب الفلسطيني تدريبًا سريًّا، ولقد نجحوا في ذلك إلى حد بعيد حتى أصبحت شعبهم ودورهم هي مراكز القيادة وساحات التدريب، ولا يزال أهل فلسطين يحمدون للداعية الإسلامي (سعيد رمضان) مواقفه الكريمة، وأثره البالغ في توجيه الشباب العربي وجهة خالصة، ويذكرون بالفخار والإكبار جهود الأساتذة (عبد الرحمن الساعاتي، وعبد المعز عبد الستار، وعبد العزيز أحمد)، وغيرهم من كرام الدعاة والمدربين، وما كان لهم من حسن التوجيه وطيب الأثر".

محنة 54

في هذه المحنة تعرَّض الشيخ للأذى الشديد، شأنه في ذلك شأن بقية إخوانه الذين مرت عليهم هذه الشدة العظيمة، فصبرهم الله تعالى وثبتهم في وجه قوى الظلم والطغيان، ويفصل ما تعرض له الشيخ عبد المعز المهندس الصروي فيقول:

"الشيخ يوسف القرضاوي فيحكي أيضًا في موضوع مطول عن الحياة في معتقل الهايكستب في مذكراته، أبرزها العلقة الساخنة التي تلقاها الإخوان المعتقلون من الضابط فريد القاضي الذي أراد أن يعلِّم المعتقلين كيف يحترمون الضابط، فاستدعى أورطة (سرية أو عدة سرايا) من العساكر (مثل عساكر الأمن المركزي) ومعهم العصي الغليظة، وأذاقوا المعتقلين جميعًا علقة شديدة جدًّا..

وكان بالعنبر الآخر- أثناء العلقة- بعض كبار الإخوان مثل الشيخ عبد المعز عبد الستار، والأستاذ عبد الحكيم عابدين.. وكان الشيخ عبد المعز يصرخ فيهم وهم يضربونه قائلاً: اضربوا يا أندال، اضربوا يا كلاب".

وشاء الله رغم كل ذلك أن ينجو الشيخ من الأحكام القاسية التي صدرت على أبناء الجماعة زورًا وبهتانًا، وأن تصدر أحكام بالبراءة في حق كل من عبد الرحمن البنا، عبد المعز عبد الستار أستاذ بالأزهر، والبهي الخولي مدير الثقافة الإسلامية بوزارة الأوقاف.

في مكتب الإرشاد

يذكر الأستاذ محمد حامد أبو النصر في كتابه "حقيقة الخلاف بين الإخوان المسلمين وعبد الناصر".. تفاصيل اختيار مكتب الإرشاد الثاني، قائلاً: "فلما أُجريت انتخابات مكتب الإرشاد الثاني في عهد فضيلة المرشد الراحل الأستاذ حسن الهضيبي في ديسمبر سنة 1953م، أظهرت نتيجة الانتخابات معاني كامنة في نفوس أعضاء الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين، وكانت هذه المعاني تؤكد وجوب ربط العناصر القوية في شكل جماعي، تحت قيادة المرشد العام للجماعة بشكل طمأن النفوس وطوَّح بكل فكرة تقول بضد هذا الاتجاه، وكانت النتيجة الطبيعية لهذا إبعاد هؤلاء عن عضوية مكتب الإرشاد؛ حيث أسفرت نتيجة الانتخاب على اختيار الأخوة:
الدكتور محمد خميس حميدة.. وكيلاً للجماعة.

الأستاذ عبد الحكيم عابدين.. سكرتيرًا.

الدكتور حسين كمال الدين.. أمينًا للصندوق.

الأستاذ عبد القادر عودة.. عضوًا.

الدكتور كمال خليفة.. عضوًا.

الأستاذ عمر التلمساني.. عضوًا.

الأستاذ عبد الرحمن البنا.. عضوًا.

الأستاذ عبد المعز عبد الستار.. عضوًا.

فضيلة الشيخ أحمد شريت.. عضوًا.

فضيلة الشيخ محمد فرغلي.. عضوًا.

الأستاذ عبد العزيز عطية.. عضوًا.

الشاهد علي الطريق محمد حامد أبو النصر.. عضوًا.

وبحكم اللائحة الداخلية للهيئة التأسيسية ضمَّ المكتب إلى عضويته كلاًّ من الإخوة: الأستاذ منير أمين دله، الأستاذ صالح أبو رقيق، الأستاذ البهي الخولي، وابتدأ المكتب يؤدي عمله في ثقة واطمئنان..".

فكان تشكيل المكتب الأخير، كما يقول الأستاذ محمود عبد الحليم: "مكتب الإرشاد العام
الإخوة الأساتذة محمد خميس حميدة، والبهي الخولي، والشيخ محمد فرغلي، ومحمد حامد أبو النصر، والشيخ أحمد شريت، والدكتور حسين كمال الدين، والدكتور كمال خليفة، وعبد الرحمن البنا، وعمر التلمساني، وعبد القادر عودة، وعبد الحكيم عابدين، وعبد المعز عبد الستار".

وفاته

وفي يوم 13 أبريل 2011م تُوفي الشيخ المجاهد عبد المعز عبد الستار، بعد عمر حافل أفناه في خدمة الدعوة والقضية الفلسطينية.

رحم الله الفقيد، وتقبل جهاده وعلمه، وأسكنه فسيح جناته، وأنزله منازل الشهداء والصديقين.. آمين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.