هل ما زال المرء في حاجةٍ إلى مزيد من الشواهد ليقتنع بالحقيقة المريرة؟! وإلى متى يظل فريقٌ من المهتمين بالقضية الفلسطينية يجادلون أنفسهم- قبل مجادلة غيرهم- تشككًا في أن ما يدور هناك فوق الأرض أو تحتها هو "مؤامرة" متكاملة الأركان؟! فهناك "موضة" بين فريق لا بأس به من المثقفين يرفض نظرية المؤامرة، ويصف من يلجأ إليها بالغرق في الغيبيات، وتعليق ما يجري على شماعة الغير، لكن المعروف تاريخيًّا وواقعيًّا أن عالم الصراعات لا يخلو من الدسائس والمؤامرات، وقضية فلسطين- التي تمثل واحدةً من أهم ساحات الصراع في التاريخ- ليست بعيدةً عن ذلك، بل أزعم أن تلك القضية برمتها هي وليدة مؤامرة استعمارية كبرى سقطت فيها- عبر مراحل التاريخ- أطراف عربية وفصائل داخلية بأشكال مختلفة، وفي مناسبات متباينة وتحت ذرائع ومبررات شتى، لكن كلها للأسف الشديد ظلت تصب في خانة التمكين للمشروع الصهيوني على حساب التهام الأرض وتشريد الشعب الفلسطيني.


فقبول العرب هدنة عام 1948م، وهزيمتا عام 1948م، وعام 1967م ثم اتفاقيات: "كامب ديفيد" (عام 1978م)، و"أوسلو" (عام 1993م)، و"وادي عربة" (عام 1995م)، ثم افتتاح القنصليات الصهيونية في عددٍ من العواصم العربية.. كل ذلك لم يسترد شبرًا واحدًا من أرض فلسطين، ولم يزحزح الصهاينة قيد أنملة عن المضي قُدمًا في مشروعهم الاستعماري، بل لقد قدمت كل تلك المواقف والاتفاقيات اعترافًا تلو الاعتراف بـ"إسرائيل"، ومن يراجع كشف حساب التاريخ يجده مليئًا بالخسائر في الجانب الفلسطيني، مقابل نفس القدر من المكاسب في الجانب الصهيوني.


في هذه الأجواء التاريخية للقضية الفلسطينية ننظر إلى وقائع المجزرة الدائرة في غزة عقب حصار قاتل استمر عامًا ونصف العام، تلك المجزرة المجرمة التي تحوَّلت إلى محرقة يندى جبين الإنسانية من المرتقب أن تتواصل حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً! وقد صار واضحًا أن تلك الحرب هي وليدة مخطط من ثلاثة أوجه؛ وجه صهيوأمريكي، وثانٍ: إقليمي متخفٍّ، وثالث: فلسطيني يتمثل في الفريق الانقلابي الدموي داخل "فتح" بقيادة "محمد دحلان"، وبدعم من "محمود عباس"، وإن أجندة هذا الفريق ليست خافيةً، وهي تحمل في طياتها تصفية المقاومة الفلسطينية وفي القلب منها حركة "حماس"؛ استجابةً للإملاءات والتدابير الصهيونية، ولسنا هنا في حاجة إلى تقديم أدلة على ذلك؛ فقد حرص الطرف الصهيوني دائمًا على إظهار كل الحقائق في هذا الصدد، ولم تتوقف التصريحات والبيانات الصهيونية والأمريكية عن تأكيد دعم أطراف عربية للمحرقة، وإن حال النظام العربي مما يجري أبلغ من أي مقال، فهناك أطراف عربية راضية وتهتز طربًا- دون تصريح- عند سماع تلك البيانات والتصريحات، ومَن يتابع الإعلام المصري منذ الانقلاب العسكري حتى اليوم يكتشف إلى أي مدى بلغ التأييد والدعم للكيان الصهيوني في مقابل الدعوة لإبادة "حماس"، ومَن يراجع التسريبات المتواترة عن دعم أطراف عربية عديدة وتمويلها لتلك الحرب يكتشف إلى أي مدى ذهب حكام المنطقة بشعوبها العربية المسلمة لتكون في خندق العدو الصهيوني!.. ويُخدِّم على ذلك إعلام العار الذي تمتطيه نخبة العار المتصهينة.


إن الذين رقصوا على جثث ضحايا مجزرتي رابعة والنهضة في مصر الانقلاب؛ يواصلون نفس الرقصات اليوم على ضحايا مجازر الصهاينة في غزة!.


غزة اليوم تواجه عدوانًا ثلاثيًّا بامتياز (صهيوني- عربي- دولي)، وقد استغرق تصنيع ذلك التحالف عقودًا من الزمان، وللتذكير فقط أسترجع ما قاله "شيمون بيريز"، الداهية الصهيوني المعروف، في أكتوبر 2005م للإذاعة "الإسرائيلية": "من الواضح وضوح الشمس أن علينا أن نشن مواجهة لا هوادة فيها ضد "حماس"، وأن ندعم- دون تردد- أبا مازن"، ودعا إلى إقامة جبهة مشتركة بين "إسرائيل" و"عباس" ضد ما أسماه "الجنون الإرهابي"! وقول "شاؤول موفاز"، وزير الدفاع الصهيوني السابق، يوم الأحد 18/7/2005: "إن ثمة بوادر أولى لنشاط تقوم به السلطة الفلسطينية ضد حركة "حماس" دون أن يكون بقدرٍ كافٍ من القوة»، وناشد "موفاز" حركة "فتح" توحيد صفوفها لمواجهة "حماس"، وأستعيد كذلك ما قاله البروفيسور "عمانويل سيفان"، من الجامعة العبرية في القدس المحتلة: «يجب ضرب "حماس"، وإيجاد فجوة بينها وبين "فتح" في ذات الوقت، وليس هناك بديل لـ"فتح"، وما يتوجب هو عرض الجزرة عليهم وتعزيز دافعيتهم لمقاتلة "حماس"، ليس لدينا طريقة للتأثير على "حماس" مباشرة إلا من خلال السلطة".

كما أستعيد ما قاله البروفيسور "غباي بن دور"، رئيس مركز أبحاث الأمن القومي في جامعة حيفا العبرية: "لنفحص كيف قام المصريون بمعالجة مشكلة الإخوان المسلمين، وفي المقابل يتوجب علينا الوصول إلى وضع لا نعمل فيه وحدنا، بحيث تقوم السلطة بتنفيذ جزء من الحرب ضد حماس".. أليس ذلك هو عين ما شاهدناه في حرب "الرصاص المصبوب" على غزة عام 2008م؟!.


ولو وضعنا وقائع المجزرة الدائرة اليوم وتصريحات قادة الصهاينة وتصريحات ومواقف بعض الأطراف العربية وحفلة إعلام العار في العالم العربي فرحًا بالمجزرة الدائرة اليوم في غزة؛ ستكتمل الصورة أمامه، فالأمر لم يعد في حاجة إلى مزيد من الإيضاح.


على العموم، فهي ليست المرة الأولى التي تتنادى فيها قوى الجبروت الاستعماري من كل حدب وصوب لإبادة شعب يقاوم من أجل تحرير وطنه، وما ذلك إلا تكرار لنفس المشاهد التي حفظها التاريخ ومازالت حية في سجلاته، وهي كلها تعني - في التحليل الأخير - أن ما يبيّت اليوم لاقتلاع "حماس" و"الجهاد" وتيار المقاومة قد يغيّب قادتها شهداء، وقد يحدث خسائر كبيرة في صفوف المدنيين – كما يتابع العالم - ولكنه في نفس الوقت يشعل الثورة أكثر، ويقدم وقوداً جديداً يزيد تيار الجهاد قوة وعزيمة ومضاءً.


واليقين الذي لا يعتريه أي شك أن المسيرة ستظل منطلقة حتى تصل إلى المحطة الأخيرة حين يقاتل المسلمون اليهود، فيختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، ويقول الحجر والشجر: "يا مسلم، يا عبدالله، ورائي يهودي تعال فاقتله"، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

----------

(*)كاتب مصري- مدير تحرير مجلة المجتمع الكويتية

 [email protected]

https://www.facebook.com/shaban.abdelrahman.1?fref=ts

twitter: @shabanpress