أصدرت محكمة العدل الدولية حكمًا مثيرًا للجدل في 27 فبراير 2007م حول الدعوى التي كانت قد رفعتها جمهورية البوسنة ضد الاتحاد اليوغسلافي السابق الذي كان يضم جمهورية الجبل الأسود عام 1992م، واتهمت البوسنة الصرب بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية ضد سكانها خصوصًا من المسلمين.

 

وقد رفعت الدعوى عام 1992م قبل أن تشهد الساحة اليوغسلافية مشهدًا مؤلمًا قام فيه الجنود الصرب بقتل متعمد لأكثر من 8 آلاف مسلم في مدينة سربرنيتشيا تحت سمع وبصر قوات الحماية الدولية البالغ عددها في ذلك الوقت اثنان وعشرون ألفًا وبرعاية مباشرة من الوحدة الهولندية؛ مما آثار فضيحة كبرى في هولندا وتحقيقات موسعة، كما أثار نفس الفضيحة بالنسبة لمصداقية القوات الدولية منذ ذلك الوقت خاصةً أن ما حدث في البوسنة تكرر أيضًا بعدها أو خلال هذه الأحداث في رواندا عندما سحب الأمين العام للأمم المتحدة قوات الحماية الدولية؛ مما أتاح للمقاتلين من الهوتو والتوتسي ارتكاب مذابح راح ضحيتها من الطرفين أكثر من مليون ضحية.

 

وأصدرت محكمة العدل الدولية في 11/7/1996م، حكمًا يؤكد اختصاصها في نظر القضية ورفضت كافة الدفوع الأولية التي قدمتها يوغسلافيا، كما رفضت المحكمة في حكمها الأخير مقولة يوغسلافيا السابقة بأن الحكم الصادر عام 1996م كان يحتمل التفسير فيما يتعلق باختصاص المحكمة.

 

والقضية باختصار هي أن البوسنة طلبت من محكمة العدل الدولية أن تفصل فيما إذا كانت جمهورية الصرب والجبل الأسود قد ارتكبتا مخالفات جسيمة لمعاهدة الأمم المتحدة الخاصة بإبادة العرق عام 1948م وأقامت البوسنة اختصاص المحكمة على أساس المادة التاسعة من المعاهدة والتي تجعل المحكمة الدولية مختصة بالنظر في المنازعات الناشئة عن تفسير وتطبيق هذه المعاهدة. وأكد الحكم الأخير على ما يلي:

أولاً: أن جمهورية الجبل الأسود كانت طرفًا في معاهدة إبادة الجنس حتى وهي تستقل عن يوغسلافيا السابقة وتصبح عضوًا في الأمم المتحدة اعتبارًا 28/ 6/ 2006 ولذلك فإن الحكم ينصرف إلى الصرب والجبل الأسود معًا رغم صدوره في فبراير 2007 بعد انسحاب الجبل الأسود من الاتحاد اليوغسلافي.

 

ثانيًا: قررت المحكمة أنها مختصة بنظر الدعوة بموجب المادة التاسعة من معاهدة حظر إبادة الجنس وأن حكمها في هذا الشأن عام 1996م قد حاز حجية الشيء المقضي فيه رافضة بذلك ادعاء الصرب بغير ذلك.

 

ثالثًا: أكدت المحكمة أن أطراف معاهدة حظر إبادة الجنس ليسوا ملزمين بشكلٍ مباشر وصريح بموجب أحكام المعاهدة بعدم ارتكاب أعمال الإبادة ولكنهم ملزمون بالمعاقبة على مَن يقوم على أراضيهم بارتكاب أعمال إبادة، كما أنهم ملزمون بمنع مَن يقيم على أراضيهم ومن باب أولى مواطنيهم من ارتكاب مثل هذه الأعمال التي نصت المادة الثانية من المعاهدة على أمثلةٍ يمكن أن يقاس عليها من الأعمال المشكلة لجريمة إبادة.

 

وقررت المحكمة أنه إن كان جنود الجيش الرسمي الصربي هم الذين ارتكبوا هذه الأعمال التي تشكل في نظر المحكمة جريمة إبادة الجنس إلا أن تحقيقات المحكمة وتقصيها للموقف لم يثبت أن هناك سياسةً رسميةً أبلغتها الحكومة الصربية إلى جنودها للقيام بمثل هذه الأعمال، وهو نفس المنطق الذي قررته وزارة الدفاع الأمريكية ردًّا على اتهام بعض المتورطين في جرائم سجن أبو غريب بأنهم تلقوا تعليمات من وزير الدفاع؛ ولذلك فإنه رغم نفي وزارة الدفاع لذلك إلا أن المحاكم الأمريكية قد حكمت عليهم بعقوبات مخففة فيما عدا بعض الجنود خارج هذه الدائرة الذين ارتكبوا جريمة الاغتصاب والقتل لشابة عراقية قاصرة وأفراد أسرتها؛ حيث حكم على أحدهم بالسجن لمدة 100 عام، وهو تناقض غريب بل كاشف لدور وزارة الدفاع الرسمي في القضايا الأخرى المماثلة والتي كشفها اختلاف مستوى العقاب.

 

والغريب أن محكمة العدل الدولية قد أكدت أن ما حدث في يوغسلافيا السابقة كان يشكل جريمة إبادة وأن الفاعل هم جنود الجيش الصربي الرسمي فكيف يمكن لوحدات كاملة من الجيش الرسمي أن تقوم بعمل واحد يدخل في عداد جرائم الإبادة ولا يلتفت قادة هذه الوحدات لهذه التصرفات، وكيف يستقيم القول بأنه في جيش رسمي نظامي تتصرف وحدات كاملة بهذا الشكل دون تعليمات رسمية إلا أن يكون عقد الجيش قد انفرط وفقدت قياداته القدرة على التحكم فيه، وهو ما لم يثبت في حالة يوغسلافيا، فلماذا أصرت المحكمة على إثبات جريمة إبادة وتحديد الفاعل دون أن يكون هذا الفاعل تابعًا لدولة رسمية قائمة بالمخالفة لأحكام القانون الدولي والتي تجعل تصرف الموظف العام أيًّا كان موقعه في السلطات الثلاث ملزمًا للدولة ومؤسسًا لمسئولياتها الدولية عن أعماله؟.

 

والغريب أيضًا أن محكمة العدل الدولية لم تلتف إلى حقيقة بسيطة، وهي أنه إذا كانت الدولة الصربية ليست متورطةً في انتهاك المعاهدة الدولية والإقرار بمسئوليتها عن هذا العمل المشين بسبب تصرفات جنودها، فلماذا لم تعاقب الحكومة الصربية جنودها على ما فعلوا اللهم إذا كان القانون الصربي يبيح هذه البطولات! ويسمح لهذه الأعمال، وحتى لو كان القانون الصربي قاصرًا فإن صربيا لم تقم بمجرد تقديم هؤلاء للمحاكمة وهم يعدون بالآلاف وعشرات الآلاف واعترافاتهم أمام محكمة يوغسلافيا السابقة واضحة في الدلالة على أن أعمالهم كانت انتقامًا طائفيًّا عرقيًّا ودينيًّا واضحًا، وأن كبار قادتهم قد أدينوا، ولا يكفي ما انتهت إليه المحكمة من مجرد شبهة المسئولية التي ألحقتها بجمهورية الصرب لأنها كانت في وضع يفرض عليها العلم بسلوك جنودها ولكنها لم تفعل شيئًا لمنعهم من ذلك أو لعقابهم على ذلك لأن المنطق واحد وهو أنه إذا كانت هذه الأعمال مجرَمة فإن الالتزام بمنعها قبل بدئها ثم المعاقبة عليها بعد إتيانها هو منطق واحد فكيف فرقت المحكمة في نفس المنطق بين عملين متلازمين فألقت باللائمة على الصرب لعدم قيامها بمنع جنودها منذ البداية ولكنها لم توجه نفس اللوم إليها على تقصيرها وتواطؤها بعدم مؤاخذة جنودها على هذه الجرائم.

 

وقد أشار الكثيرون بأصابع الاتهام إلى محكمة العدل الدولية بأنها أضفت طابعًا سياسيًّا سيئًا على حكمها ووقعت في أخطاء قانونية ما كان لمثلها أن يقع فيه فهل وضعت المحكمة في اعتبارها أن الضحايا من المسلمين في زمن استبيحت فيه دماء المسلمين، وذلك بذريعة نسيان الماضي وعدم العودة إلى الانتقام المتبادل، وألم تأخذ المحكمة في حسبانها أن زعيم الصرب ميلوسوفيتش الذي كان يحاكم أمام محكمة يوغسلافيا السابقة لعدة سنوات قد انتحر وترك ضحايا أعماله الإجرامية دون أن يشفي القدر غليلهم في حكم ناجع، فكان يتعين على المحكمة أن تعوض ذلك بحكم قانوني سليم وعادل وهو ما أحبط آمال الضحايا على ما تردد في تقارير الإعلام.

 

وقد ترتب على حكم المحكمة الكثير من الآثار: أولها أن جمهورية البوسنة لا تستطيع أن تطالب بالتعويض عن الأضرار التي لحقت برعاياها بسبب جرائم الإبادة.

 

أما ثاني هذه الآثار فهو أن إقرار المحكمة بالطبيعة الجنائية لأعمال الجنود الصرب، سوف يعطي جمهورية البوسنة الحق في مطالبة المحكمة الجنائية الدولية بمحاكمة هؤلاء أمامها عن جرائم الإبادة وبذلك يكون حكم محكمة العدل وثيقة أساسية ودليلاً قاطعًا لا يحتاج لمزيد من البرهان يسهل للمحكمة الجنائية الدولية إصدار حكم جديد فيما يتعلق بطبيعة هذه الأفعال.

 

أما الأثر الثالث فهو شعور أبناء البوسنة من المسلمين والقوات التي تعرضت لأعمال الإبادة أنه لا أمل في العدالة الدولية وأن سياسة الانتقام والأخذ بالثأر هي الأكثر نجاعة؛ مما قد يؤدي إلى تجدد الأعمال العدائية بينهم خاصةً أن قضية كوسوفو لا تزال ساخنة وتحمل الكثير من التداعيات بالنسبة لهذا الملف الدامي.

 

وجدير بمنظمة المؤتمر الإسلامي أن تعلق على هذا الحكم ما دام الضحية فيه هم المسلمون ولا يجوز لها أن تتقاعس بذريعة أنه لا يجوز التعليق على أحكام المحكمة الدولية من جانب الحكومات أو المنظمات، والمنظمة الإسلامية تعلم جيدًا أن أحدًا لم يهتم بالذكرى العاشرة لمذبحة سربرنيتشيا أحد فصول المأساة ضد المسلمين، وعلى العكس فإن الجمعية العامة للأمم المتحدة قد اتخذت قرارًا بإحياء ذكرى المحرقة اليهودية في ألمانيا، وفي الوقت الذي احتفل الأمين العام السابق للأمم المتحدة بهذه الذكرى الغالية فإنه رفض حضور مناسبة مماثلة لشهداء مسلمين في يوغسلافيا السابقة، ومن شأن كل هذه الأعمال التي تدل على الاستخفاف بالمسلمين وبأرواحهم أن تكون مادة خصبة للمتطرفين من الجماعات التي تعمل تحت راية الإسلام بصرف النظر عن توفيقها أو إساءتها إليه.