رحل عنا يوم الأحد الموافق 20 فبراير 2011م، الحاج عبد الرحمن البنان، فما كادت الثورة المصرية تعلن انتصارها على الطاغية حسني مبارك، وما كاد الشيخ يفرح بذلك حتى اندلعت ثورة الأحرار في ليبيا لإسقاط أحد طغاة هذا العصر، غير أن الشيخ لم يسعد بسقوط هذا الطاغية فقد وافته المنية بعد رحلة طويلة من التصدي للطغاة، سواء المحتل الأجنبي، أو المغتصب لحقوق الشعب المتمثل في حكام لم يعرفوا الله.

 

عبد الرحمن البنان الذي انطلق بكل حماسة، وهو ابن السادسة عشرة من عمره، وقام بمغامرة للوصول إلى أرض فلسطين ليشارك مع إخوانه المجاهدين جهادهم ضد الصهاينة أثناء حرب فلسطين عام 1948م، وقد أبلى بلاءً حسنًا حيث شارك المجاهد محمد فرغلي، ويوسف طلعت، وحسن دوح، وكامل الشريف كل العمليات التي قام بها الإخوان في هذه الحرب ضد الصهاينة.

 

لقد كان عبد الرحمن متجردًا لله ناكرًا لذاته فبالرغم من كونه كتب مذكراته إلا أنه لم يوضح بالتفاصيل ما قام به، وكان يشرح دور إخوانه فحسب.

 

لقد شارك في المعارك ثم اعتقل مع بقية المجاهدين في سجن الطور بالرغم أنه كان ما زال طالبًا في المرحلة الثانوية، ثم تنسم عبير الحرية بعد سقوط حكومة إبراهيم عبد الهادي.

 

لكن لم يبعد البنان عن مجريات الأحداث ما كاد النحاس باشا يعلن إلغاء معاهدة 1936م حتى هب الإخوان يسطرون أروع معاني التصدي ضد المحتل البريطاني في القنال عام 1951م.

 

وما كادت تصل الإشارة إلى عبد الرحمن حتى انتفض، وجمع ملابسه وسارع لمقابلة إخوانه في الإسماعيلية عبد الله سليم، وحسن دوح، وأبو الفتوح عفيفي، وبدأ الجميع في تجهيز أنفسهم لحرب ضروس يخوضونها ضد المستعمر الإنجليزي، وكلف كل واحد بمهمة، وكان الجميع يتنافسون على أية مهمة لربما ينال الشهادة، وأمام ذلك اضطر قائدهم بعمل قرعة بينهم، وحينما جاءت الأخبار عن تحرك الجيش الإنجليزي من بورسعيد متجهًا إلى السويس تجهز الإخوان لتدميره لما يحويه من جنود، وأسلحة، وتدافع الجميع للقيام بالمهمة، مما اضطرهم لعمل قرعة فوقعت على عبد الرحمن البنان فكانت سعادته غامرة بهذا التوفيق خاصة أن هذه العملية من أخطر العمليات ونسبة النجاة منها ضئيلة، وتوجه للمكان المحدد والذي يبعد عن مصدر التفجير ما يقرب من 100 متر لكنه للتأكيد على إحداث التفجير جعل المسافة 50 مترًا مما قلل نسبة النجاة، وحينما ظهر القطار استعد، وما كادت العربات الأولى تمر حتى ضغط على المفجر الذي نسف القطار بكل ما فيه، وشاءت إرادة الله أن ينجو البنان ويعود لإخوانه الذين أيقنوا استشهاده.

 

وبعد انتهاء الحرب وقيام الثورة شارك مع إخوانه في تأمينها، لكن كان جزاءه بعد ذلك الاعتقال لمدة عشر سنوات من عام 1954م، حتى عام 1964م، وما كاد يخرج منها حتى ابتلاه الله مرة أخرى بالاعتقال عام 1965م، وبقي بها ما يقرب من ثلاث سنوات وحينما خرج عام 1968م حاول السفر لكن النظام الحاكم رفض لكونه واحدًا من الإخوان لكن بمساعدة صديقه نجيب جويفل سافر إلى الكويت ثم إلى لبنان وهناك أتم دراسته بكلية الآداب.

 

عاد واستقر في مصر عام 1985م، غير أن الله ابتلاه بضياع أمواله في شركات الريان والتي ضيعتها الحكومة ضربا للاقتصاد الإسلامي فما جزع، أو قنط من رحمة الله، لكنه أحسن التوكل عليه وفتح في فيلته بالمعادي حضانة كانت منارة إسلامية يقصد إليها جميع الأطفال من شتى الفئات سواء أبناء كبار رجال الداخلية، أو بعض أبناء الأقباط، وظلت تربي وتعطي حتى عام 2002م حينما قرر إغلاقها لكبر السن.

 

مع مرور الوقت لم يترك البنان إخوانه لحظة فكان دائمًا ما يدعوهم (خاصة الرعيل الأول) ليلتقوا في فيلته كل حين، وكان آخر عمل قبل أن يفقد النطق أن أقام حفلة كبيرة أواخر عام 2005م، بمناسبة نجاح الإخوان في البرلمان وحضر الأستاذ عاكف المرشد العام السابق وعدد كبير من النواب والإخوان.

 

التقيت به أول مرة حينما كنت أقوم بتوثيق تاريخ الإخوان فيما عُرف بعمالقة في زمن النسيان، فوجدته باشًّا دائمًا لم يشعرني لحظةً أنني غريب عنه، أو فرق السن كبير، وأشعرني أنني بمثابة ابنه، حتى إنه كان رافضًا لنشر مذكراته لكنني فوجئت بموافقته لي حينما تحدثت معه السيدة الفاضلة زوجته، وحينما أخذتها لإعدادها وجدت فيها شخصًا ينكر ذاته وأعماله ابتغاء مرضاة الله، بالرغم من الأعمال والمغامرات الكثيرة التي قام بها في سبيل دينه ودعوته وضد الصهاينة والإنجليز، وحينما شكوت لبعض أصدقائه المقربين أمثال الحاج عبده صالح أو عبد الهادي القاصري؛ أجمعا على أن عبد الرحمن دائمًا ينكر ذاته ولا يحب أن يتحدث عن نفسه أبدًا.

 

ولاحظت ذلك كثيرًا حينما كنت أذهب لأعرض عليه ما كُتب من المذكرات، وما تم تنسيقه فحينما كانت زوجته تذكره بموقف (لكونه فاقد النطق) كنت أرى حمرة الخجل في وجه وكان يهز رأسه وهو ممتعض ولا يريد أن يذكر أحد هذه المواقف فقد احتسبها عند الله.

 

وحينما كنت أذهب إليه ما كان يتركني رغم تعبه إلا بعد أن انصرف فقد كان يحترم من أمامه كبر كان أو صغر وكان يشعر من أمامه بالحب الشديد.

 

لقد كان الشيخ عبد الرحمن البنا ذا روح طيبة تواقة للجهاد ولنصرة هذا الدين، فلقي الله الذي نسأله أن يكتبه في الصالحين.